ما هو سر الإخوان في واشنطن؟
وليد فارس/ الأمين العام للمجموعة الأطلسية النيابية
لم يتسابق مع هذا اللوبي الضخم إلا كتلة الضغط المؤيدة للنظام الإيراني الأصغر حجماً في الثمانينيات
يتساءل مراقبون ومحللون في العواصم الغربية، وأصحاب قرار في الشرق الأوسط، عن سر نفوذ جماعة الإخوان المسلمين في واشنطن وقدرتها على التأثير في السياسة الأميركية إمّا إيجابا أو سلباً تجاه مختلف الجبهات في العالم العربي التي تفجرت منذ بداية الربيع العربي.
ويربط المحللون تقدم الإخوان في ليبيا وشمال سوريا واليمن بقدرة تأثير الجماعة في الموقف الأميركي لمدة سنوات في وقت ظن كثيرون في واشنطن أن زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب في مايو (أيار) 2017 إلى الرياض قد رسمت خطوط التحالف بين الولايات المتحدة والتحالف العربي بقيادة السعودية ومصر.
وطالما يسألني الإعلاميون ويسألون آخرين من المحللين في واشنطن عن سبب قدرة التحالف القطري- التركي- الإخوان في العاصمة الأميركية بالتأثير في مختلف السياسات الأميركية حيال شركائها العرب، كالسعودية والإمارات ومصر وحتى إسرائيل.
الأسباب العميقة نتركها للمؤرخين، وهي بدأت مع نهاية الستينيات وبداية السبعينيات إثر هجرة عدد من كوادر الإخوان من الشرق الأوسط عموماً ومصر والسعودية وفلسطين والأردن خصوصاً إلى المدن والجامعات الأميركية. بالتالي، فإن طبقة من المهنيين الذين تأثروا بجيل كامل من الكوادر الآتية من المنطقة قد انتشروا عبر المواقع الأكاديمية والفكرية والإدارية وفي نهاية المطاف تحولوا إلى جسم استشاري له امتداداته في مراكز التفكير الأميركية لعقود.
بفضل هذه الهجرة للتيار الإسلاموي خصوصاً في الحرب الباردة فإن تموضع أعضائه لأجيال متعددة في المؤسسات التي تعنى بالسياسة الخارجية والدفاع سبق وجود أي كتلة ضغط عربية مرتبطة بالتحالف العربي، وكما كنا قد كتبنا سابقاً في هذا العمود، إن الحرب الباردة ساعدت الكوادر الإخوانية لأنها كانت تجابه الشيوعيين والاتحاد السوفياتي ونالت ثقة أوساط قيادية في الخارجية والأمن والدفاع. وبناء عليه، فإن الدول العربية المحافظة التي تحالفت مع الولايات المتحدة ضد السوفيات كانت تعتمد على هذه النخب المثقفة لبناء علاقاتها مع واشنطن. والمفارقة أن الحلقات المتأثرة بالإخوان استفادت من دعم الدول العربية التي انتفضت ضدها في ما بعد.
من هنا، وبشكل ملخص، باتت الحلقة الإخوانية ممراً إلزاميّاً في أي تفكير استراتيجي في ما يتعلق بالعالم العربي والإسلامي والشرق الأوسط.
ومن موقعهم الأكاديمي والسياسي المميز أثر هؤلاء في نظرة الإعلام الأميركي تجاه المنطقة أيضاً، فباتوا تقريباً بلا منازع في عملية دراسة المنطقة وتقديم الاقتراحات وترجمة الأفكار للحكومات الأميركية والمراكز الفكرية. ومما عزز رصيدهم دعم الدول العربية لهم من موقع تحولهم إلى منصات تفيد العالم العربي ككل، وتساعد في الدفاع عن صورته في القضايا الكبرى القديمة، كالمسألة الفلسطينية، وبعد ذلك موضوع الإسلاموفوبيا.
ولم يتسابق مع هذا اللوبي الضخم إلا كتلة الضغط المؤيدة للنظام الإيراني الأصغر حجماً في الثمانينيات، وتطورت في ما بعد حتى تحولت إلى كتلة مؤثرة ولكنها لم تصل إلى مستوى التأثير الإخواني. ضف إلى ذلك، أنه منذ منتصف التسعينيات قامت الحكومات القطرية بدعم هذه الحلقات إعلاميا، ما منحها قدرات غير مسبوقة وأضفت مشروعية أكبر عبر تغطية تحركات ومواقف وتنظيرات هذه النخب على هواء قناة “الجزيرة”.
ولعبت مجموعات الضغط الإخوانية دوراً كبيراً في مجابهة حملتي إدارة جورج بوش في أفغانستان والعراق لسنوات عدة. فإزاء الأولى ضغطت هذه الشبكات الأكاديمية الإعلامية على مراكز القرار في واشنطن لتمنع أي عمل استراتيجي يعجل في التغيير السياسي الاجتماعي في كابول من أجل تجفيف حواضن طالبان الشعبية. ما أثّر في قدرة إدارة بوش وبعدها ترمب في الخروج من أفغانستان بعد تسليمها لمؤسسات وطنية قادرة على إدارة البلد.
وأدى نجاح باراك أوباما في 2008 إلى تحالف بين إدارته وقوى اللوبي الإخواني على مدى 8 سنوات، كانت حاسمة في تجذر هذه الكتلة في المؤسسات الأميركية وبناء نفوذ في السياسة الخارجية في ما يتعلق بملفات الدول العربية. وظهر ذلك بوضوح مع بداية ما يسمى الربيع العربي. ورأينا تأثير الإخوان في وزارة الخارجية وإدارة أوباما من خلال تأييد واشنطن مشاريع الإخوان في مصر وليبيا وتونس وسوريا. وكانت عملية إسقاط الرؤساء حسني مبارك وزين العابدين بن علي ومعمر القذافي، بدعم من سياسة الرئيس أوباما التي خضعت لتأثير الإخوان الذين وعدوا بإقامة دول إسلامية معتدلة.
تم تظهير هذا الاتفاق مع زيارة أوباما إلى القاهرة وخطابه الشهير في جامعتها، غير أن صعود الإخوان السريع في عهده أدى إلى زعزعة السلطات العربية وفجر صراعاً بين القوى المؤيدة للإخوان، كالنهضة في تونس والجماعات الإسلامية في ليبيا وإخوان مصر وغيرهم في المنطقة، مع مختلف الحكومات المعتدلة. وربطت القوى الإسلامية في المنطقة عبر قطر بقوة إقليمية كبرى في تركيا بقيادة حزب العدالة والتنمية الذي وصل إلى الحكم في عام 2002.
وبدأت الحملة المضادة من المنطقة تحاول وقف مد الإخوان في دول عدة، أولها الإمارات التي أصدرت أكبر لائحة للجماعات الإرهابية في تاريخ المنطقة، وكان نصيب الإخوان والتنظيمات المؤيدة لإيران حصة الأسد منها. وبعدها جاءت ثورة مصر في حزيران 2013، إذ خرج 33 مليون مصري ضد نظام محمد مرسي، ولعبت القوات المسلحة المصرية دوراً في بناء المؤسسات وتأمين الانتخابات ومواجهة الإرهابيين. وفي تونس، عاد التيار العلماني الشعبي ليفرض توازناً مع النهضة حتى المرحلة الأخيرة. أما في ليبيا، فقد انطلق الجيش الوطني بقيادة المشير خليفة حفتر في 2014 عبر عملية الكرامة من أجل مواجهة جماعات القاعدة وداعش، وبعد ذلك حاول تجريد الميليشيات الإخوانية من سلاحها في طرابلس ومصراتة.
استمرت السياسة الأميركية في وقوفها مع أجندة الإخوان، بالتالي انتقادها مصر والجيش الليبي وبشكل غير مباشر الإمارات، ووضعت ضغطاً على السعودية كي لا تواجه التنظيم الإسلامي. ورافقت الصحافة الأميركية، لا سيما المنصات الكبرى مثل “نيويورك تايمز” و”واشنطن بوست” و”سي أن أن”، هذه السياسة وقامت بتوجيه انتقادات شديدة لخصوم الإخوان.
ومع انتخاب ترمب الذي أعلن أكثر من مرة خلال حملته الانتخابية أنه سيضع التنظيم على لائحة الإرهاب، وكان حاسماً في مواجهته الجماعات المتطرفة، غير أن التطورات السياسية التي عصفت بإدارته لم تمكنه من مواجهة هذا الملف. ولكن ظاهرة أخرى ساعدت على استمرار نفوذ الإخوان، تجسدت في قيام تركيا وقطر بالتعاقد مع أكبر اللوبيات السياسية وشركات الإعلام والترويج. وقامت هذه الأخيرة بشكل علني بالتأثير في الرأي العام من ناحية وفي الإدارة بشكل خاص، من أجل عدم مواجهة الأجندة الإخوانية في مختلف الدول العربية. ويذكر الجميع في خريف 2018 كيف أن الإعلام الأميركي وعدداً من السياسيين قاموا بشن حملة ضد ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بعد مقتل جمال خاشقجي، واستمرت الحملة على السعودية بتناغم واضح بين “الجزيرة” والصحافة الأميركية وانتقاد دورها في اليمن ومعارضة علاقتها المميزة مع واشنطن.
واستمر هذا التناغم الإخواني وعدد من الصحف الأميركية بانتقاد دور الإمارات في اليمن وليبيا، إضافة إلى التركيز على شن حملات متتالية ضد الجيش الليبي وقائده خليفة حفتر. هذه القدرة سمحت للتيار الإخواني والدول التي تدعمه في تحقيق نقاط في مواقع عدة، فمثلاً نجحت الميليشيات الإخوانية في شمال سوريا في الدفع بالأكراد الموجودين على الحدود مع تركيا إلى الداخل السوري، ما يسبب بخسارة استراتيجية لقوات سوريا الديمقراطية. وفي الملف اليمني، لعب الضغط الإخواني في واشنطن ونيويورك دوراً مهماً في مواجهة الجنوبيين عبر دعم “حزب الإصلاح” للتمركز في مواقع متعددة في جنوب اليمن، مانعاً الجنوبيين من القيام بتنفيذ الإدارة الذاتية التي كانوا يطمحون إليها. وفي ليبيا، دخلت تركيا بكل قوتها إلى الغرب وتمكنت عبر قدراتها العسكرية الأطلسية بدفع الجيش الليبي في اتجاه الشرق. وهذا لم يكن ممكناً لولا وجود قبول أميركي سياسي يعود إلى التأثير الإخواني في العاصمة الأميركية.
لذلك، فإن المراقبين والمحللين لم يتمكنوا من فهم السياسة الأميركية تجاه عدد من دول المنطقة إلا عبر دور اللوبي الإخواني القوي والمنظم في واشنطن. بالتالي، حتى مع التزام الرئيس ترمب بمواجهة الحركات الإسلامية، فإن الاتفاق مع طالبان وتطور الأوضاع في ليييا وتركيا وشمال سوريا، إن دل على شيء فإنه يدل على نجاح هذه الجماعات والأنظمة التي تدعمها في إمرار ملفاتها ضمن إدارة أميركية منهمكة في الصراعات السياسية الداخلية من التحقيق الروسي إلى كورونا والتظاهرات.
اندبندنت عربية