أسابيع خطيرة آتية نكهتها صينية – إيرانية
راغده درغام
إذا فرضت الولايات المتحدة العقوبات الضخمة المتوقع لها فرضها مطلع هذا الأسبوع على الشركات الصينية الكبرى، وإذا بدأت الصين بتلبية دعوة الجمهورية الإسلامية الإيرانية لاستخدام مرافئها عسكرياً في إطار نقلة نوعية لبكين في التموضع الجغرافي – السياسي في الشرق الأوسط والخليج، وإذا أفرطت القيادات الإيرانية في شدّ العضلات خلال التمارين العسكرية التي تنوي القيام بها من الآن وحتى 18 تشرين الأول (أكتوبر) في الخليج ومضيق هرمز، قد تبدأ عندئذ المواجهة الأميركية – الصينية العسكرية لربما عبر بوابة بحر جنوب الصين قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية، لكنها لن تنتهي هناك. فالولايات المتحدة الأميركية وجمهورية الصين الشعبية تستعدان للمواجهة الكبرى في ظل التدهور في العلاقات الثنائية بينهما كما في ظل المعاهدات الاستراتيجية التي تبرمها الصين مع إيران وأمثالها.
إيران ستتحوّل الى قاعدة عسكرية صينية بموجب التفاهمات بين القيادتين، لكن الولايات المتحدة لن ترضخ أمام توسّع الصين في مواقع استراتيجية حيويّة مثل مضيق هرمز وأمام شراكة عسكرية صينية – إيرانية تُغيّر معالم الشرق الأوسط والخليج. فلدى واشنطن الخُطط الاستراتيجية البعيدة المدى إزاء الصين وإيران اللتين تشكّلان اليوم الخطرين الرئيسيّين على المصالح القومية الأميركية.
هذا يعني أن المنطقة العربية مُقبلة على المزيد من التوتّر والنزاعات والمآسي. يعني أن مشاريع إيران الإقليمية ستُموّلها الصين وستمكّنها. يعني أن روسيا ستقلق وستراجع حساباتها أمام نمو الشراكة الصينية – الإيرانية بعدما كانت افترضت أنها وصلت الى ما تبتغيه في سوريا، وهي اليوم في أسوأ أوضاعها هناك. يعني ان الدول الواقعة تحت السيطرة الإيرانية مثل العراق ولبنان ستدفع ثمناً غالياً للزواج الصيني – الإيراني الذي ينوي إلغاء هوية هذه الدول وشخصيّتها وتحويل مواطنيها الى النموذج الإيراني والصيني عبر آليات الترويض والإخضاع.
كل هذا سيحدث ما لم تُوقف الولايات المتحدة هذا القطار في سكّته عبر العقوبات وأيضاً عبر الإجراءات العسكرية، إذا تطلّب الأمر ذلك. والسؤال في بال كثيرين هو: ماذا قد يفعل جو بايدن إذا أصبح رئيساً، بل ماذا ستفعل كامالا هاريس إذا تحوّلت الى مرشحة الحزب الديموقراطي في حال تدهورت صحة بايدن أثناء الحملة الانتخابية أو باتت الرئيس إذا طرأت عليه حالة صحية بعد انتخابه. وماذا سيفعل الرئيس الحالي دونالد ترامب في ولاية ثانية بعدما كان صقل علاقات حسنة مع الصين قبل أن تصل الى ما وصلت اليه الآن؟
دونالد ترامب واضح في سياساته نحو كل من إيران والصين فهو يودّ أن يتوصّل مع كل منهما الى الصفقة التي يريدها، لكنه لن يتنازل أمام أيٍّ منهما إذا صعّدتا. سلاحه هو العقوبات التي أثبتت حدّتها وقدرتها على تكبيل الاقتصاد وإرهاق أهل السلطة. قبل جائحة “كوفيد-19″، كانت العلاقة الأميركية – الصينية حسنة، وكثيرون استبعدوا تماماً أيّة مواجهة بين العملاقين. اليوم، إن القلق من المواجهة يزداد وقد تضاعف في أعقاب اتفاقية الـ25 سنة بين الصين وإيران.
الصين تتمنى إسقاط ترامب في الانتخابات وترى أن جو بايدن أفضل لها على أساس أنه أقل تطرّفاً في مواقفه نحو كل من الصين وإيران. لكن هذا الرهان قد لا يكون صائباً لأن أميركا تتصرّف بأبعد من الرئاسة والحزب الحاكم عندما يتعلّق الأمر بالمصلحة العليا وبالاعتبارات القومية البعيدة التي لا يتم وضعها لأربع سنوات وإنما لأربعين سنة.
مهما كان، إن للرئيس في البيت الأبيض أهمية في حسابات الدول، بعضها استراتيجي وبعضها سياسي عابر. لذلك، إن الصين وروسيا وأوروبا وكل العالم تراقب الانتخابات الأميركية. دونالد ترامب يراهن على المناظرة Debate بينه وبين جو بايدن ويصرّ على أن تكون الجولات الثلاث شخصية وجهاً لوجه.
في رأي ترامب ومستشاريه، أن المواجهة الحيّة في مناظرة مع بايدن ستكون خاتمة طموحات جو بايدن بالرئاسة. هناك في معسكر ترامب من يروّج أن صحّة بايدن ليست على ما يرام وأن المناظرة وجّهاً لوجه ستُنهكه وستجعله يبدو مشروع رئيسٍ ضعيفٍ أمام الناخب الأميركي- جسديّاً ونفسيّاً. حتى الآن، لم يوافق فريق بايدن على أية مناظرة حيّة وجهاً لوجه.
إنما كلا الفريقين يُدرك تماماً أن المناظرات ستكون العنصر الحاسم، وهذا أيضاً هو رأي كثير من المراقبين الدوليين في مختلف العواصم بالذات في العاصمتين الصينية والروسية علماً أن روسيا “تصوّت” لترامب والصين لبايدن.
كلاهما، الصين وروسيا، يشكّلان بدورهما مشروع مواجهة أميركية بالعقوبات في تاريخ 18 تشرين الأول (أكتوبر)- تاريخ فشل الجهود الأميركية للحؤول دون سماح مجلس الأمن للدول أن تبيع الأسلحة لإيران. الأرجح أن الصين وروسيا ستسرعان الى بيع إيران الأسلحة حينذاك، وستسرع إدارة ترامب الى فرض عقوبات ثلاثية ضخمة تطاول القطاعات الحيوية الإيرانية والشركات الصينية والروسية الكبرى التي سينهار بعضها بسبب العقوبات الأميركية الآتية حتماً.
روسيا ليست في وضع تُحسَد عليه في هذه الفترة بسبب المواقف الأوروبية والأميركية من تسميم المُعارض الروسي اليكس نافالني والتي تتّهم “مسؤولين روسيين كباراً” بإصدار أوامر التسميم، كما قال وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو. مشكلة الكرملين تكمن في مواقف ألمانيا وبالذات المستشارة انغيلا ميركل التي أوضحت أن لا مجال للتساهل في هذه المسألة بعدما استنتج الأطباء في المانيا أن عملية التسميم كانت متعمّدة.
فالمواقف الألمانية ستؤدي، من جهة الى مواجهة مفتوحة بين روسيا والغرب برُمّته، وستسفر عن عقوبات أوروبية وأميركية على روسيا. من جهة أخرى، أنها ستضرب في عمق العلاقات الروسية – الألمانية الاقتصادية وبالذات خط أنابيب الغاز “نورد ستريم-2” Nord Stream2 الفائق الأهمية للرئيس فلاديمير بوتين ولشركة غاز Gaz Prom الفائقة الأهمية له أيضاً. فهذا هو خط الأنابيب الذي لطالما طالب ترامب ميركل بأن تضع نهاية له- وها هي الآن جاهزة لإلغاء مشروع لـ11 مليار دولار بسبب تسميم نافالني وليس خضوعاً لطلب ترامب.
خسارة بوتين للشريك الألماني في شخص ميركل إنما يشكّل ضربة قاسية علماً أنها كانت أقوى الداعمين له ولتطوير العلاقات الروسية – الأوروبية. اليوم، ولسخرية القدر، تقود ألمانيا حملة العقوبات الأوروبية على روسيا- إذا استمر رفض موسكو القيام بالتحقيق المطلوب. وللمرة الأولى، ستكون الولايات المتحدة الداعم- وليس البادئ – بفرض عقوبات على روسيا. هذه العقوبات لن تكون موجّهة ضد أفراد وإنما ضد الدولة، وذلك تجنّباً لاستهداف كبار المسؤولين الروس. لكن ذلك لن يساعد في احتواء الأزمة المتصاعدة والتي لن تنتهي – كما يتمنى الكرملين – بالوهن الأوروبي أو بالنسيان. فالأزمة جدّيّة ومصيرية في العلاقات الروسية – الأوروبية ولعلّها أسوأ أزمة تواجهها موسكو في العقدين الماضيين لأنها تضرب صلب السياسة الخارجية الروسية.
هل سيؤدّي تفاقم هذا الوضع الى ارتماء روسيا في أحضان الصين انتقاماً من الغرب؟ “لن تتمكن روسيا من الانتماء الى معسكر الصين”، قال مخضرم روسي في ملف العلاقات الروسية مع كل من الولايات المتحدة والصين. “ولن تتمكن من الاقتراب أكثر الى الولايات المتحدة”. فالمأزق كبير على ضوء المواجهة العالمية التي تنوي الدولتان الكُبريان خوضها، وجميع دول العالم ستراقب عن كثب كيف ستتطوّر هذه المواجهة الخطيرة والجدّيّة- ما لم يحدث اختراق مفاجئ يرطّب العلاقات إذا ارتأى الطرفان أن المواجهة مُكلفة ومدمِّرة ويجب تجنّبها.
سطحيّاً، تبدو الصين وأنها تواجه سلاح العقوبات الأميركية بسلاح الاستثمارات الصينية. واقع الأمر أن لدى الصين مشاريع استثمارات في المرافق الحيوية ومع السلطة في إيران. في لبنان أن الصين تستثمر عبر النفوذ الإيراني باستهتار كامل لمبدأ احترام السيادة الذي تزعمه وهي تتباهى بأن لها موقع قدم على الخليج وعلى البحر المتوسط في لبنان.
إيران عرضت على الصين استخدام البحرية الصينية لكامل المرافئ الإيرانية، وقدّمت لها أيضاً مرفأ بيروت كمشروع هدية غالية وثمينة وهي واثقة ليس فقط من سيطرة “حزب الله” على المرفأ ومستقبله، وإنما أيضاً واثقة من موافقة حلفاء “حزب الله” وصولاً الى مستوى رئاسة الجمهورية وفريقه “القوي”.
القيادة الصينية رحّبت بالتأكيد بالعروض الإيرانية السخيّة وبادلتها السخاء بتمويلٍ واستثمارات لأنها وجدت في العروض فرصة تاريخية لإعادة رسم تموضع الصين لتغيير كامل المعادلة الجغرافية – السياسية العالمية. وهكذا، أعطت الصين إيران ضمانة في وجه الولايات المتحدة وذلك عبر الحماية التي ستقدّمها البحرية الصينية للناقلات الإيرانية في الخليج ومضيق هرمز.
التمارين العسكرية الإيرانية الضخمة التي ستستخدمها إيران لإبلاغ رسائل التخويف الى جيرانها ستتميّز هذه المرة بالنكهة الصينية للاستقواء. قد تكون هذه التمارين خطرة وقد تسفر عن مفاجآت. فالقيادة الإيرانية عازمة على إبراز العضلات بحقنة صينية قبل 18 تشرين الأول (أكتوبر) لتبلّغ إدارة ترامب أنها باتت تتمتّع بالحماية الصينية وباتت لا تبالي بالعقوبات لأن الصين تموّلها لكسر طوق العقوبات التي تخنقها.
هناك رأي بأن مدّ الصين حبل إنقاذ إيران من المشنقة الأميركية سيقلب الطاولة على فعالية سلاح العقوبات. الرأي الآخر يشير الى أن أدوات العقوبات التي تقوم الولايات المتحدة بتجهيزها ضد الشركات الصينية ستقلب هي الطاولة على كامل المشروع الصيني – الإيراني لأن هذه ليست معركة عابرة وإنما هي مصيرية للولايات المتحدة الأميركية، وليس لمجرّد إدارة ورئيس لأربع أو ثماني سنوات.
لا ضرورة للرهان. الأيام والشهور الآتية ستوضّح الجواب. حتى الآن، واضح أن للعقوبات جدوى وتأثيراً يضرب في عصب الصين وإيران وحلفائها على السواء.
في لبنان، أنذرت إدارة ترامب حلفاء وشركاء “حزب الله” أن لا مِزاح ولا صبر ولا إعفاء من المحاسبة. فرضت عقوبات على كل من الوزير يوسف فنيانوس المقرّب من سليمان فرنجية قائد “المردة” الطامح برئاسة الجمهورية، وعلى الوزير علي حسن خليل الذي يُعتبر ركناً أساسياً في حلقة نبيه برّي رئيس البرلمان وزعيم حركة “أمل”.
البعض في صفوف “التيار الوطني الحر” الذي ينتمي اليه رئيس الجمهورية ميشال عون ويقوده صهره جبران باسيل، يطيب له أن يتصوّر أن أميركا لن تتجرأ على شمله بالعقوبات. الرد الآتي من واشنطن هو: أربطوا حزام الأمان للإقلاع وللهبوط معاً لأن الرحلة ستكون عسيرة والأسماء باتت عملياً على قائمة العقوبات التي لن تستثني طرفاً أعطى الغطاء لـ “حزب الله” إما عبر تسويةٍ ما أو نسي أن شراكة “حزب الله” و”حماس” خط أحمر لا يمكن التظاهر بمباركته تحت أي عنوان كان. والأنظار تتوجّه الى المقرّبين من أمثال رئيس الحكومة السابق سعد الحريري الذي شارك في التسوية والنائب وليد جنبلاط الذي رأى في مقابلة قائد حركة “حماس”، إسماعيل هنيّه، واجباً قوميّاً فلسطينياً.
لبنان ساحة صغيرة إنما مهمّة لاختبار وتوسيع علاقة التحالف الجديدة بين الصين وإيران. الساحة الأهم قد تكون منطقة الخليج حيث الملاحة الدولية التي يريد الثنائي أن يهيمن عليها في استراتيجية خطيرة. حتى روسيا ليست مرتاحة بالرغم من قربها من الصين وإيران لأنها تخشى أن تؤدّي العلاقة الجديدة الى تهوّر إيراني غير مسبوق والى صفقات أخرى تُبرمها الصين- مع “طالبان” مثلاً – كما الى مواجهات مع الهند وليس فقط مع الولايات المتحدة التي ستكون للصين ولإيران بالمرصاد.