آراء

توافق كُردي- كُردي أولي ضبابي في انتظار تفصيلات التطبيق

عبدالباسط سيدا

يذكر الفيلسوف المصري الراحل زكي نجيب محمود في مقالٍ له أنّ صديقاً له كان قد أصبح وزيراً للزراعة، اتصل به في أحد الأيام قائلاً له: أعرف أنك من المطالبين دائماً بزراعة الأشجار لمواجهة التصحّر الذي يهدّد مناطقنا الزراعية والمأهولة؛ لذلك أدعوك إلى المشاركة في حملة تشجير ستقوم بها الوزارة . وسأكون سعيداً بوجودك معنا.
ويضيف الفيلسوف المصري: ذهبت إلى المكان المحدّد، وفي الوقت المحدّد، لأجد الإعلام ومظاهر الفرح. وبينما كان الوزير والمدعوون يقومون بزراعة الشجيرات، كنت أبحث عن المصدر المائي الذي سيضمن الحياة لها؛ لأنّ المنطقة كانت جافةً، ولا يمكن لشجيراتٍ صغيرة ضعيفة أن تقاوم قساوة ظروفها المناخية من دون حصولها على رعايةٍ مستمرة، والماء يأتي في مقدّمة الشروط المطلوبة لذلك.
هذا بينما كان الوزير وصحبه مشغولين بالخطابات الرنانة، والأحاديث الإعلامية التي عادةً ما ينتهي مفعولها مع انتهاء البثّ. لذلك قرّر الفيلسوف أن يسأل صديقه الوزير عن الكيفية التي ستتمّ بموجبها رعاية الشجيرات بعد مغادرتهم للمكان، حتى يتحقّق الهدف الأساس من حملة التشجير؛ ولكنه فؤجئ بجواب صديقه الوزير الذي قال له: ما زلت كما كنت لم تتغيّر. تدعو إلى المثاليات. نحن هنا فقط من أجل التصوير، والدعاية الإعلامية، وتنتهي مهمتنا بعد ذلك. أي بما معناه: الشجيرات لها ربّها الذي سيقرّر مصيرها.

ما ذكّرني بهذا الكلام الذي قرأته لمحمود قبل نحو أربعين عاماً، وأوردته هنا بتصرفٍ، هو ما تمْ الإعلان عنه قبل أيامٍ حول الوصول إلى توافقات مبدئية بين المجلس الوطني الكُردي ، وأحزاب الوحدة الوطنية الكُردية ، وقيل أنه سيكون أساساً لجولةٍ ثانية من المفاوضات تبحث في تفصيلات موضوعات لم يتمّ الاتفاق حولها، وأخرى لم تناقش أصلاً. ففيما يتعلّق بموضوع الإدارة تحدّث عنه مسؤول في حزب الاتحاد الديمقرطي وحزب العمال الكُردستاني في الوقت ذاته قبل أيامٍ قائلاً: إنّ الإدارة موجودة، وما على الطرف الآخر إلا أن يأتي وينضمّ إليها. وكذلك هو الأمر بالنسبة إلى الموضوع العسكري. أما قضية المعتقلين والمغيبين فقد تمّ التنصّل منها بحجة غياب المسؤولين عنها إما فيزيائياً أو جغرافياً أو حزبياً.

لا أعتقد أنه يوجد كُردي واحد لا يريد وحدة الكُرد، و توافقهم. كما لا يوجد مصري واحد ضد حملات التشجير. ولكن في الحالتين لا بدَّ من توفير المقدّمات الضرورية لبلوغ المطلوب والبناء عليه.

فموحدة الموقف الكُردي السوري لا بدَّ أن تكون على أسس واقعية، تعزّز الثقة، وتؤكّد أنّ النوايا صادقة. وهناك إرادة جدية للعمل على تجاوز الأخطاء التي كانت؛ واتخاذ الخطوات التي من شأنها فتح الطريق أمام مشاركةٍ جماعية حقيقية في القرارات وتنفيذها، وتحمّل المسؤولية، ووجود آلية واضحة للمساءلة والمحاسبة والمعالجة.

كما أنّ وحدة الموقف الكُردي السوري لا يمكن أن تكون بمعزلٍ عن الموقف السوري العام؛ لأنّ الحالة الكُردية السورية هي في نهاية المطاف جزء من الحالة السورية العامة. وهذا ما لم نتلمّسه في البيان الإعلامي المشار إليه.

كما أنّ ظهور جسمٍ جديد تحت اسم ” أحزاب الوحدة الوطنية الكُردية ” أمر مثّل مفاجأة للجميع، وذكّرنا بتلك التسميات الكثيرة التي ظهرت في الشمال السوري، وفي منطقة ادلب تحديداً، للتغطية على اسم جبهة النصرة، وآخر هذه التسميات: هيئة تحرير الشام. هذا في حين يعلم الجميع أنّ جبهة النصرة هي التي تتحكّم بكلّ شركائها المزعومين في الكيانات الهلامية التي اعلن عنها، ومنها هيئة تحرير الشام نفسها.

والأمر كذلك بالنسبة إلى حزب الاتحاد الديمقراطي. وفي مثل هذه الحالة كان من الأفضل الاتفاق معه مباشرة، رغم كلّ الملاحظات حول سياساته، ودرجة استقلاليته، والممارسات المثيرة للجدل التي أقدم عليها منذ دخوله إلى الساحة السورية بالتنسيق مع النظام.
أما الآن، فقد باتت المسؤولية مشتْتة بين الحزب المعني والأحزاب التزيينية التي أتى بها، وهي أحزاب نعلم أنه هو الذي أوجدها، أو هيمن عليها، ويتحكّم بها، حتى أنّ أي مسؤولٍ من مسؤوليها لايتجرّأ على مجرّد السلام على أحدهم من دون موافقة مسؤولي حزب الاتحاد الديمقراطي.

ولكن مع كلّ ذلك، ينتظر الكُرد نتائج المباحثات التي ستكون في المرحلة المقبلة حول التفاهمات المبدئية المشار إليها؛ هذا رغم تباين الموقف حول ما تمّ الاعلان عنه، ودرجة تفاؤلهم به.

الأمر الجديد المهم في المشهد كله، هو الرعاية الأمريكية لما أعلن عنه، والعودة إلى اتفاقية دهوك 2014 كأرضيةٍ للمفاوضات القادمة وهي الاتفاقية التي رعاها الرئيس مسعود بارزاني؛ وهذا مؤداه أنّ الأمريكان قد انتقلوا في تعاملهم مع الملفّ الكُردي السوري من مرحلة الترتيبات والاستخدامات العسكرية والتنسيق الأمني إلى مرحلة التفاهمات السياسية، وهو أمر يبدو أنه ينسجم مع الرؤية الأمريكية لاستحقاقات المرحلة القادمة في سوريا والمنطقة عموماً. وما يستنتج من مختلف التحرّكات والتصريحات و المعطيات والتسريبات، هو وجود تفاهم أمريكي- روسي حول العمل من أجل حلّ سياسي في سوريا. وليس من المستبعد أن يكون هذا التوافق الكُردي المبدئي ، خاصةً في جانبه السياسي، مقدمة لإشراك حزب الاتحاد الديمقراطي ضمن إطار تكتّلٍ عائم في هيئة المفاوضات واللجنة الدستورية، وذلك من أجل الالتفاف على الفيتو التركي، وربما بالتنسيق مع الجانب التركي؛ ولكن بشكلٍ غير معلَن، وذلك تقديراً لحساباتٍ داخلية، أو تفاهماتٍ بين الدول المعنية بالملفّ السوري بصورةٍ عامة.

ولكن في جميع الأحوال، لا يمكن لأيّ تفاهمٍ كُردي- كُردي في سوريا أن يكون مثمراً فاعلاً ما لم يكن متفاعلاً مع الحالة السورية، ومحافظاً على أفضل العلاقات مع المجتمع المحلي، والمجتمع السوري العام، لأنّ القضية الكُردية في سوريا هي في نهاية المطاف، جزء من القضية الوطنية السورية العامة.

ويبقى الموقف الأمريكي هو الحاسم في جميع الأحوال، سواءً في الملف الكُردي ، أم السوري، أم في مختلف ملفات المنطقة. ولكن بغضّ النظر عن كلّ شيء، تظلّ التفاهمات الداخلية بين سائر المكونات المجتمعية في المنطقة من دون أيّ تمييزٍ أو استثناءٍ ، ذات أهمية خاصة من جهة إمكانية التاثير في الموقف الأمريكي نفسه، الذي يظلّ متمحوراً حول الأهداف الاستراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية، ولا يتدخّل في التفاصيل المحلية، ولا يقيم حساباته على مسائل التغيير الديموغرافي بأشكاله المختلفة، وإنما يركّز على المعادلات التي تضبط التوازنات في المنطقة.

والسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو: هل أصبح الكُرد جزءاً من المعادلات المعنية؟

ما يُستنتج من المعطيات والمؤشرات هو أنّ كُرد العراق قد باتوا جزءاً من تلك المعادلات . أما كُرد سوريا، والمجتمع المحلي في منطقة شرقي الفرات عموماً، فالأمور بالنسبة إليهم غير واضحة حتى الآن. والكلّ في انتظار التوافقات الدولية النهائية حول الحلّ السياسي، ويُشار في هذا السياق إلى الآمال المعقودة على قانون قيصر الذي دخل حيز التنفيذ في 17-7-2020، وهو تاريخ تزامَن بصورةٍ لافتة مع تاريخ الإعلان عن التوافقات الكُردية . وهناك مَنْ يتساءل حول هذا التزامن: هل كان بمحض الصدفة؟ أم أنه كان ضمن حزمة الرسائل المتبادلة هذه الأيام بين الأطراف الإقليمية والدولية المتنافسة، إنْ لم نقل المتصارعة، على أدوارٍ مؤثّرة في سياق المعادلات الجديدة.

ومن بين تلك الرسائل يُشار هنا إلى عمليات القصف التركي لمناطق عدة في إقليم كُردستان العراق، وكذلك القصف الإيراني. كما أنّ تطورات الموقف في ليبيا لصالح حكومة الوفاق، والمساندة الأمريكية الضمنية للموقف التركي في مواجهة الدعم الروسي لقوات حفتر، وتطورات الموقف في الساحة العراقية، والتشنّج الذي تعيشه راهناً منطقة ادلب، والتمهيد الروسي لمناوشات جديدة هناك عبر واجهة النظام؛ كلّ تلك الرسائل تمثّل أعراض حالة مخاضٍ عسيرة تعيشها المنطقة نتيجة احتضار القديم، وانتظار الجديد الذي لم يولد بعدُ على حدّ تعبير الفيلسوف الإيطالي غرامشي.

 

هذا المقال تم نشره في جريدة يكيتي في العدد 275

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى