آراء

أشواق كردستان

د. محمد حبش

لا أعتقد ان المثقف يستطيع حقوقياً ولا أخلاقياً أن ينكر حق الأمة الكردية في بناء حضارتها وتاريخها، ولا أكتم موقفي من عدالة القضية الكردية وحق هذه الأمة المعذبة أن يقوم لها على أرضها التاريخية في جبالها الشامخة كيان حقيقي يجمع هذه الطاقات المهدورة ويبني بها وطناً يليق بهذا الشعب الكبير الرائع، ولكن يجب القول أن هذا الموقف الحقوقي او الأخلاقي لا يرتبط بأي مشروع سياسي بقدر ما يرتبط بنطرية الحق، ولا أقدم نفسي محللاً سياسياً بقدر ما أقدم نفسي قارئاً لحركة التاريخ مؤمناً بالعدالة الإلهية في العالم وحق الإنسان في حياة كريمة وسعيدة.

منذ قرون تعيش دول سعيدة في العالم تنتمي لأسر صغيرة مثل لوكسمبورغ ولينخشتاين وسيشل والبحرين وجيبوتي وتعيش على مساحات صغيرة وهناك 34 مسجلة رسمياً في الأمم المتحدة لا يزيد سكانها عن مليون، وهناك 20 دولة مسجلة في الأمم المتحدة أصغر من البحرين لا تزيد عن ألف كم مربع، وعند التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة فإن لكل منها صوتاً يساوي صوت الصين والهند! ولكل منها علمها ودولتها ودستورها ونشيدها الوطني والآمال التي يحملها ذلك الشعب، وغالب ابناء هذه البلاد يعتقدون أن الحضارات انطلقت من ربوعهم وأن بلادهم هي من علمت العالم الأبجديات والحضارات والاستقرار الإنساني.

تستحق الأمة الكردية القيام، ومن مصلحة البشرية أن يجد هذا الشعب العظيم المتفرد بلغته ونيروزه وأغنياته وبساتينه وجباله سبيلاً لجمع هذه الطاقات الجبارة لتنمو وتتفاعل في بيئة حقيقية تختار في الإنسان أجود ما فيه وتقدم لها الطبيعة المزيد من العطاء والخير والتحدي.
ليس الكردي نسقاً منفرداً من الناس، والخرافة التي تقضي بتميز دم على دم وعرق على عرق مرفوضة في المفهوم البيولوجي والحقوقي جميعاً وهي مرفوضة في النص الإسلامي، كما أنها باتت غير واقعية على الإطلاق في العالم المعاصر، فالأعراق تتداخل وتتشطى ولا يوجد شعب بيو ولا عرق أزرق، وفي المنتخبات الوطنية التي تحمل أعلام الدول يمكنك أن تقرأ المشهد كاملاً فالذين يحملون العلم الفرنسي في الأولمبياد أفارقة وعرب، والذين يحملون العلم البرازيلي ينتمون إلى أعراق بعدد أفراد المنتخبات التي يلعبون فيها، وبات العالم الجديد لا يؤمن بالإنسان الوطني فالجميع مهاجرون والجميع يشتركون في بناء أوطانهم والجميع يحلمون بدولة العدل والمساواة، ويرفضون أي تمييز.

ولكن معاناة الكرد نشأت من وجهة نظري من هذا الوعي بالذات، فحين تقاسم العالم المنطقة في سايكس بيكو وسيفر ولوزان، تم الحديث عن عالم جديد من المساواة والحرية والديمقراطية وأن الشعوب ستعيش متجاورة تحتفظ بثقافاتها وتقاليدها ولغاتها ولكنها تذوب في مجتمع واحدة له هوية وطنية محددة، وكان من الطبيعي أن يقوم المثقف الكردي بالحديث عن المواطنة والمساواة وأن تبقى المطالب القومية في الحقل الثقافي والتدافع الاجتماعي بعيداً عن السياسة التي يحكمها قانون المواطنة الذي لا يميز بين الناس في شيء من أحوالهم ويعلي الانتماء الوطني على الانتماء القومي.

ولكن ما حصل كان عكس ذلك تماماً وخلال العقود التالية وجد الكرد أنفسهم وقد وقعوا في محيط تنافس قومي متعصب للغاية، بين براثن ثلاث اتجاهات عنصرية قومية لا ترحم فالمشروع الطوراني القائم على استعلاء العنصر التركي، والمشروع الفارسي القائم على استعلاء العنصر الفارسي ومشروع البعث الثوري الماحق في سوريا والعراق، وبات مطلوباً من الكردي أن يتخلى عن قوميته وهويته وثقافته فيما يطلب من الآخرين تعزيز هوياتهم وثقافاتهم وتكريسها على الناس بالقوة والجبروت.

كانت خيبة فظيعة أدت تلقائياً إلى وضع الكردي بين خيارين أن يغير ذاته وكيانه ويلتحق بأحد المشاريع العصبوية الثلاثة التي تحطمه بلكلكلها، وينخرط في أو أن يتمرد على العصبيات المهددة له وللأسف فقد كان ثمن ذلك العزلة والغياب من دائرة التأثير وبالتالي تراجع الواقع المجتمعي على الرغم من أن الازدهار ظل حلماً واهماً للجميع، ولكن بعض الشر أهون من بعض، والرمد أشوى من العمى.

أعتقد أن المشاريع السياسية يجب أن تبقى محكومة بالواقع، ولا يستطيع أحد أن يقفز فوق القانون الدولي، ولكن الكرد يمكنهم أن يقدموا رؤية جديدة للديمقراطية والمساواة والعدالة والهوية الوطنية، وأن يقوموا بدورهم النبيل في ريادة الوعي السياسي والاجتماعي وتقديم النموذج المتقدم للمواطن المؤمن بالدولة الحديثة، ولكنه مطالب بجهد ثقافي كبير لإحياء القيم التي توارثها الكرد في أرضهم الطيبة وتقديم الكرد للعالم من جديد عبر مساهماتهم الحقيقية في إغناء الحياة وبعث الجمال والروح فيها، ومن حق الوطن السوري المعذب ان يشهد مهرجان الأغنية الكردية والتراث الكردي واللغة الكردية والزي الكردي، وعلماء الكرد في التاريخ ومساهماتهم في المجتمعات والحضارات، ونجاحهم في العمل مع الدولة الإنسانية الحديثة.

لقد كان الخيار الذي اتجه إليه شباب جيل كامل من أبناء الكرد هو الخلاص والهجرة، فقد دفعهم الظلم والقهر للخروج من بلادهم وقام العالم الحضاري باحتضانهم كما تقتضي قيم الحضارة وحقوق الإنسان، وبالتالي الذوبان الكامل في قيم الحضارة الحديثة، وتوفير الحياة الكريمة لأسرهم وأطفالهم، ولكن هذا الخيار على الرغم من عدالته لا يعتبر وفاء حقيقياً لتراث أمة غنية، تستحق مكاناً واضحاً تحت الشمس، ولا يزال في عنق هؤلاء المهاجرين مسؤولية إنسانية حضارية في إحياء قيم الشهامة والنجدة والفداء، وما اتصل بها من نبل وعطاء وصرخات حرية وعدالة، وأدب ونثر وشعر ورسم وموسيقى وإيمان.
لقد استطاعت الثقافة أن تحدث تغييراً كبيراً في مصائر شعوب تعرضت لهذا النوع من المظالم، وما فشلت فيه السياسة أنجزته الثقافة، وقد نجح المثقفون في إعادة استنطاق حضارة المايا والأزيتا، وتجتاح أوروبا الآن موجة كبيرة من إحياء الإيمان الروماني القديم بما فيه الوثنيات الأولى واعتبار طمسها عملاً عدوانياً على الحضارة والقيم الإنسانية على الرغم من ثبوت بطلانها في معايير العقل والبرهان.

لا يحق لأحد أن يقتل الأشواق الملتهبة في جبال زاغروس، حيث يعيش كاوا الحداد في ضمائر الشباب والصبايا يرقصون له بفساتينهم المزركشة في كل نوروز، ويشهد كل سقوط ديكتاتور قصة نمرود جديدة، تنبعث من أفيائها روح مم وزين، ترسم على علم الشمس أغاني الجبال وشلالاته المتدفقة بالعذب الزلال، حيث لا يزال تعيش في أعطافها قلوب تؤمن بالإنسان رسالة وفاء وشهامة ومروؤة.

قناعتي أن المطلوب من الجيل الجديد كفاح متواز في دربين اثنين فهو مطالب بأن يناضل سياسياً لتحقيق العيش الكريم والمساواة الكاملة والمواطنة المحمية بالحقوق، وأن يناضل ثقافياً للحفاظ على جانب فريد من التراث الإنساني ارتبط بالكفاح والعناء والقهر والقلوب الطيبة ورؤوس الجبال.

المقالة تم نشرها في جريدة يكيتي بعدد 292

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى