إسرائيل وإعادة تشكيل الشرق الأوسط: تحجيم إيران وفرص التغيير في سوريا
جوان ولي
يشهد الشرق الأوسط تحولاً جذرياً منذ تاريخ 7 أكتوبر 2023، حيث تغيّرت المعادلة الإقليمية بشكلٍ كبير؛ أصبح واضحاً أنّ النفوذ الإيراني والروسي في تراجعٍ ملحوظ، بينما تصاعدَ نفوذ تركيا وإسرائيل، مما أتاح فرصاً جديدة للشعوب في المنطقة، وخاصةً السوريين.
كنت قد أشرت في مقالٍ سابق، بعد اغتيال إسماعيل هنية في طهران ،إلى أنّ إسرائيل جادة في تغيير قواعد الاشتباك مع إيران، وظهر ذلك جلياً في تحركات إسرائيل ضد حماس وحزب الله والجماعات التابعة لإيران في سوريا. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ الهجمات ضد القنصلية الإيرانية في دمشق واغتيال إسماعيل هنية في طهران كانت بمثابة حربٍ مباشرة مع إيران.
لقد اختارت إسرائيل أن تكون المحرك الرئيسي للتحولات الجارية وهي التي تقود التغييرات في الشرق الأوسط لأنها معنية بشكلٍ مباشر، ويبدو وكأنّ أمريكا كانت تراقب تارةً وتهدّد تارةً أخرى لردع إيران ومنع الحرب المباشرة، وكأنّ أمريكا كانت مجبرة على ذلك، ولا رغبة لها في تغيير قواعد الاشتباك مع إيران.
لم تأتِ عملية سقوط النظام في سوريا بمعزل عما حدث في غزة ولبنان، بل هي امتداد لما بدأ هناك، حيث تمّ تدمير معظم قدرات حماس في غزة، وتصفية معظم قيادات الصف الأول في حزب الله، وإضعاف قدراته الى حدٍّ حيّّده بشكلٍ كبير وأفقده دوره في تشكيل تهديدٍ حقيقي لإسرائيل.
لم تهمل إسرائيل الجماعات التابعة لإيران في سوريا خلال حربها على حماس وحزب الله، ولم تتوقّف عن استهداف الجماعات التابعة لإيران خلال تلك الحرب. كلّ ذلك هيّأ الظروف المناسبة للهجوم على قوات النظام المخلوع من قبل المعارضة السورية المسلحة بقيادة هيئة تحرير الشام والذي أدّى إلى سقوطه في فترةٍ قياسية.
قبل أيامٍ من بدء هجوم المعارضة على حلب، تسرّبت معلومات وإشارات واضحة من مسؤولين فرنسيين وأتراك بأنّ المنطقة مقبلة على تغييرات جوهرية. من الواضح أنّ هذه المعلومات كانت تعتمد على معلومات دقيقة عن وضع قوات الأسد و حلفائه، و هذا دليل على أنّ ما حدث تمّ وفق خطة محكمة و حصول اتفاق على إسقاط نظام الأسد. تشير المعلومات الى أنّ إيران وروسيا كانتا على علمٍ بذلك، لكنّ الظروف التي تعيشها هاتان الدولتان حالت دون تدخلهما بما يكفي لمنع الاتفاق وسقوط الأسد.
إنّ الضغوط والهجمات الكبيرة التي مارستها إسرائيل ضد إيران في المنطقة خلقت إرباكاً في العلاقات بين الجماعات المحسوبة على النظام وإيران، وأعطت بعض الجماعات المحسوبة على النظام شعوراً بأنّ إيران هي المستهدفة من هذه الهجمات، وأنّ النظام سيكون في مأمن إذا ابتعد عن إيران، وجعلتهم يبحثون عن مصالحهم بعيداً عن إيران، وهذا أيضاً حقّق حالةً من عدم الثقة بين الطرفين وأضعف تحالفهما.
أما روسيا فهي في وضعٍ سيء؛ بسبب غوصها في وحل أوكرانيا، والحرب التي كانت تظنّ أنها ستكون نزهة أصبحت كابوساً بالنسبة لها، فأمريكا والدول الأوروبية تزيد من نوعية دعمها لأوكرانيا وسمحت مؤخراً لأوكرانيا باستخدام أسلحة تستطيع ضرب العمق الروسي، وهذه كلها علامات على عمق الصراع بين روسيا ودول الناتو، وتظهر مدى تورط روسيا في حربها ضد أوكرانيا، ولعلّ عجز روسيا عن الدفاع عن الأسد يظهر مدى صعوبة الظروف التي تعيشها بسبب الحرب في أوكرانيا.
إنّ تراجع نفوذ روسيا وإيران في سوريا وتزايد نفوذ إسرائيل وتركيا في سوريا هو بداية مرحلة جديدة ستتضح معالمها مع مرور الوقت. فالمتغيرات الجديدة أخرجت سوريا من محور إيران وروسيا وهي في طريقها للدخول في محور أمريكا وحلفائها، وهذا مرتبط بشكلٍ أساسي بشكل الدولة في سوريا الجديدة.
وبما أنّ تركيا وإسرائيل هما المستفيدتان من الوضع الحالي وهما حليفتان لأمريكا، فإنّ أمريكا تستطيع توزيع الأدوار عليهما بما يتوافق مع مصالح أمريكا في المنطقة. إلا أنّ الساحة السورية لن تكون بمنأى عن صراعات جديدة بين هاتين الدولتين، ولن تكون إيران خارج اللعبة و ستحاول العودة بشكلٍ جديد.
يبدو أنّ رؤية هذه الدول لسوريا الجديدة مختلفة و جوهر الاختلاف متعلّق بكيفية تكوين الدولة وآلية تشكيلها ، حيث من الواضح أنّ إسرائيل تريد أن تمنح المكونات غير العربية دوراً في إدارة الدولة.
في حين أنّ موقف إسرائيل المعلن هو دعم حقوق مختلف المكونات، وخاصةً الأكراد في سوريا و أن يكونوا جزءاً من الوضع السياسي في سوريا والمطالبة بمشاركتهم في الدولة الجديدة، بدأت تركيا بتهديد المناطق الكُردية فور سقوط النظام السوري القديم و تريد اجتياحها بحجة حزب العمال الكُردستاني.
ورغم أنّ تركيا تصرّح بأنها ضد حزب العمال الكُردستاني في كُردستان سوريا و أنها ليست ضد الأكراد، إلا أنها ضد أي مشروع كُردي يؤدّي إلى تحقيق كيان سياسي لهم سواءً على شكل حكمٍ ذاتي أو فيدرالي، وقد تكون هذه مسألة واقعية بالنسبة للأتراك لأنّ أيّ مكاسب سياسية لأكراد سوريا ستشجّع أكراد تركيا على العمل في نفس الاتجاه، وهذا ما لا تريده تركيا.
رغم أنّ أمريكا لها علاقات استراتيجية مع تركيا و لا ترغب في إغضابها إلا أنّ وجود إقليم كُردي في منطقة شرق الفرات التي تسيطر عليها أمريكا هو مصلحة أمريكية وإسرائيلية، حيث سيضمن ذلك الابتعاد عن الدولة المركزية التي فشلت في إدارة سوريا، و سيشجّع العلويين والدروز على تشكيل إدارات ذاتية خاصة بهم.
فسوريا اللامركزية ستكون أقل خطراً على مكوناتها وأقل احتمالاً لتصدير المشاكل إلى دول الجوار.
بسبب الغموض في مصير المناطق الكُردية فإنهم يعيشون حالةً من الخوف والهلع من أن تتدخّل تركيا عسكرياً في كُردستان سوريا للقضاء على فرص الأكراد في تحقيق مكاسب سياسية على الأرض، مما يجعل هذه الفرصة التاريخية مصدر قلق وفرح للأكراد في نفس الوقت.
في ظلّ هذه الظروف تبقى المناطق الكُردية تترقّب وتأمل في الحصول على الحرية الحقيقية بعيداً عن التدخلات التركية التي تتعارض مصالحها مع مصالح الكُرد، وبعيداً عن سيطرة سلطة الأمر الواقع المرتبطة بحزب العمال الكُردستاني على مصير الشعب الكُردي في كُردستان سوريا، وعن عنف الشبيبة الثورية المرتبطة بقنديل التي مارست على مدى السنوات الماضية كلّ أنواع الظلم بحق الكُرد بمختلف انتماءاتهم و خاصةً انصار المجلس الوطني الكُردي.
إنّ سيطرة حزب الاتحاد الديمقراطي على كُردستان سوريا جاء بالتنسيق مع النظام السوري الذي كان من أهم حلفاء إيران في المنطقة، وإذا تعمّقنا في هذه المسألة سنصل إلى نقطة أنّ إيران تستطيع التدخل في سوريا من خلال حزب العمال الكُردستاني بسبب وجود نفوذ لهذا الحزب في منطقة شرق الفرات، ولعلّ هذا ما يجب أن ينتبه إليه الأكراد بشكلٌ خاص والسوريون بشكلٍ عام ، و هذه المسالة تثير نقطةً مهمة متعلقة بتدخل إيران من جديد في الشؤون الكُردية والتأثير بشكل سلبي عليها.
فارتباط قوات سوريا الديمقراطية بحزب العمال الكُردستاني يجعلها مركز اهتمام بالنسبة لإيران، وربما تكون المناطق الكُردية في سوريا محل اهتمام الحرس الثوري الإيراني الذي عادةً ما يعمل على تشكيل مجموعات تابعة له تتحرّك ضمن خطط تحقّق مصالح إيران.
بعد انحسار نفوذ إيران في سوريا وقطع الطريق بينها وبين حزب الله في لبنان، لن تقبل إيران بهذا الوضع، وستحاول إيجاد حلولٍ بديلة لكسب أوراق جديدة قديمة، ويبدو أنّ حزب العمال الكُردستاني سيكون الوسيلة لذلك، و يبدو أنّ تركيا تعي هذا الخطر، و لذلك تعمل على إخراج ال ب ك ك من سوريا.
قبل أيامٍ خرج آية الله علي خامنئي إلى وسائل الإعلام وصرّح بأنّ دائرة المقاومة ستتسع، وهناك من يربط هذا التصريح بالإعلان عن جماعة جديدة في كُردستان العراق تحت اسم حزب الله الثوري الكُردستاني الذي يبدو أنه سيكون ورقة جديدة لإيران ؛ لإعادة ترتيب الأوراق والعودة من جديد إلى الساحة السورية، ويبدو أنّ المناطق التي تقع تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية ستكون الساحة المناسبة لهذه الجماعة في حال بقت تابعة لحزب العمال الكُردستاني.
بناءً على ما تمّ ذكره فإنّ تركيا لم تعد ترى منفعتها في وجود حزب العمال الكُردستاني على حدودها، بل سيكون ذلك مصدر قلق لها و مدخل لإيران في التدخل في تركيا و لذلك تريد إنهاءه بشكلٍ جذري.
ما أريد قوله هو أنّ إسرائيل هي التي هيّئت الظروف لسقوط الأسد ،وهي التي قادت خطة تحجيم نفوذ أيران، وإنّ أشكالاً جديدة من الصراعات ستظهر على السطح، والفترة القادمة لن تكون هادئة، كما يظنّ البعض، ورغم أنّ نفوذ إيران في سوريا تراجع بشكلٍ كبير، إلا أنها مع مرور الوقت ستتجاوز الصدمة التي تعرّضت لها وستحاول العودة إلى سوريا، وقد تسمح إسرائيل بذلك، على أن تبقى عودتها في المناطق الكُردية، حتى تستغلّ إسرائيل وجودها هناك لإشعال الصراع بينها وبين تركيا.
هناك توجه بمنح المكونات غير العرب دوراً في سوريا الجديدة ، وعلى هذه المكونات، بالإضافة إلى العرب، استغلال هذه الفرصة لبناء دولة مدنية بعيدة عن إقصاء الطرف الآخر.
هناك مصلحة كُردية في فكّ ارتباط قسد عن ال ب ك ك و إخراج مقاتليها من سوريا؛ لقطع الطريق أمام تركيا ،و لإعطاء أصدقاء الكُرد أوراق يستطيعون من خلالها منع تركيا من اجتياح كُردستان سوريا.
من جانبٍ آخر يجب على قسد إلغاء تبعيتها لقنديل و إجراء تغييرات جذرية بخصوص عملها الاستراتيجي بخصوص كُردستان سوريا، وأي تلاعب أو التفاف لتحقيق مصالح ضيقة ستكون نتيجتها كارثية على الكُرد في سوريا.
المقال منشور في جريدة يكيتي العدد “327”