إسلام بلا حروب
د محمد حبش
إنها قراءة أخرى للإسلام نقدّمها في صورةٍ نقدية، وهي عنوان كتابي الجديد الذي أصدرته باللغة الانكليزية عن دار لامبيرت الألمانية الشهيرة، وتعهّدت بنشره في 2000 منفذ بيع حول العالم
تناولت الدراسة موقف الرسول الكريم من الحرب، وتكشف المفارقة المحزنة أننا نروي السير تحت عنوان رحمة للعالمين، ولكننا نكرّر كالببغاء ما يرد فيها من أخبار الغزو والسلب والسبي والاسترقاق، ونروي أنّ حجراته كانت مزدحمة بالنساء والعرائس والمحظيات والجواري وملك اليمين، وأنه مارس الانتقام والبطش وألقى بتسعمائة رجل في قبر جماعي ، وفق ما أتحفتنا به كتب الرواية، ونتحدّث عن رجلٍ خاض ثماني وعشرين غزوة بنفسه وعقد الألوية لاثنتين وثلاثين سرية لأصحابه، وكان لا يغمد سيفه ولا ينزل عن حصانه، وأنه دفع الناس إلى الجهاد والفتح، وزيّن لهم القتال بالغنائم والجواري والسبايا في الأرض وبالحور العين في السماء، ودفع أصحابه للقتال حتى الموت من أجل تحصيل تلك الرغائب بعيداً عن أي هدفٍ إنساني أو تحرري نبيل، وأشعل سلسلة حروب دينية استمرّت عدة قرون من بعده، كما يحدّثنا العقل النمطي في كتب السير.
الدراسة تعيد قراءة النبي الكريم وفق مناقشة موضوعية للرواية التاريخية، وتقدّم الأدلة التاريخية على كذب كثيرٍ من هذه الروايات، وتكشف أنه إنسان مختلف تماماً، لم يكن يكره شيئاً كما يكره الحرب، وكان يقول : أبغض الأسماء إلى الله اسم حرب واسم مرة، وكان موقفه من الحرب هو الكراهية والقرف، وأنها مشروع أعداء الله كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله.
تؤكّد الدراسة أنّ الدولة هي مَن جاءت بالجيش ، وليس الجيش هو الذي جاء بالدولة كما تمارسه اليوم حركات الإسلام السياسي العنيفة التي تجعل العربة أمام الحصان، وتقاتل عكس التاريخ والواقع والمستقبل.
وتؤكّد الدراسة أنّ النبي الكريم حاول بناء دولته خمس مرات وقد فشل في أربعةٍ منها ونجح في الخامسة، ولكن كلّ الدراسات التي كتبها أتباعه وخصومه على السواء تؤكّد انه لم يستخدم أي سلاحٍ على الإطلاق ولا حتى سكين مطبخ، وانما كان كفاحاً سلمياً، وأنه تطور ديمقراطياً في المدينة على مدى ثلاثة أعوام حتى صار أغلبية ديمقراطية، وأنه قرّر هناك الهجرة إلى المدينة وبناء الدولة، وبعد ذلك بدأ ببناء الجيش كما تفعل كلّ الدول المحترمة.
وتثبت الدراسة أنّ الغزوات التي ذكرها المؤرّخون وبلغوا بها عدد ثماني وعشرين غزوة لم تكن في الواقع إلا خمس معارك فُرضت عليه، وأنها جميعاً وقعت بعد قيام الدولة وليس قبلها، وأنها وقعت على أرضه في مواجهة غزاة جاؤوا من بلادٍ بعيدة، وأنّ العدد الباقي تمّ إيراده تكثراً وتزوداً ورغبةً في إظهار الرسول كبطلٍ محاربٍ فاتكٍ لا يهاب العٍدا ولا يخشى الموت، في حين أنّ هذه الوقائع كانت في معظمها مصالحات وحوارات ومتابعات، وقد تمّ إطلاق اسم غزوة بشكل ببغائي أبله على كلّ يومٍ خرج فيه النبي من المدينة مهما كان خروجاً سلمياً أو دبلوماسياً أو حتى تعبدياً كعمرة القضاء.!!
وحتى كلمة غزوة فهي ليست تعبيراً دقيقاً بالمرة، لأنها تشي بروح الاعتداء والمباغتة، وكان الصواب أن تسنخدم كلمة مواجهة أو مدافعة، أو على الأقل كلمة حيادية مثل وقعة أو معركة، ومن المؤلم أنّ هؤلاء المؤرّخين قد سمّوا أيام نبيهم غزوات وسمّوا حروبهم فتوحات!!!!
ثم تتناول الدراسة عمر بن الخطاب الذي نعرفه في الدراسات التاريخية زعيماً عنيفاً يده دوماً على مقبض السيف: دعني أضرب عنقه يا رسول الله!! وتقدّمه الدراسة في الواقع شيئاً آخر، رجل حزمٍ لا رجل حربٍ، ورجل حكمةٍ لا رجل قتالٍ ، وفي الواقع فإنّ الحزم هو الذي يمنع الحروب بينما التردد والضعف هو الذي يشعل الحروب.
وقف عمر بن الخطاب ضد حروب الردة، وطال جداله لأبي بكر في رفض هذا الأسلوب الدموي في إجبار الناس على الصلاة والزكاة، وقال: يا خليفة رسول الله!! تألف الناس وارفق بهم، فقال أبو بكر غاضباً: بمَ أتألفهم؟ أبشعر مفتعل أم بقول مفترى ؟؟! ثم اشتدّ الجدل حتى قال له أبو بكر: أجبار في الجاهلية خوار في الإسلام ياعمر!!
لم يتوقف عمر عن نقده لحروب الردة، واستمرّ يتابع أحداثها وخاض خلافاً شديداً مع أبي بكر بشأن ممارسات خالد بن الوليد، وطلب رسمياً عزله ومحاكمته في أعقاب مقتل مالك بن نويرة، ولكن أبا بكر استمرّ في دعم خالد، واستمرّ عمر في توعّده أيضاً، حتى اذا مات أبو بكر قام عمر فوراً بعزل خالد وتقديمه للمحاكمة ومنعه من ممارسة أي دورٍ قيادي بعد ذلك.
ومن المدهش أنّ عمر أيضاً كان ضد الفتوح خارج الأرض العربية، وتحديداً خارج الشام والعراق، وكان يرى أنّ من حق الدولة الناشئة تحرير أرض العرب، الشام من الروم والعراق من الفرس وليس هناك سبب بعد ذلك للحرب والقتال، وأنّ سبيل التواصل مع العالم هوالحجة والبرهان وليس الحرب، ونهى أصحابه بصرامة أن ينساحوا في أرض فارس ، وقال بيقين العارف: وددت لو أنّ بيننا وبين فارس جبلاً من نار لا يصلون إلينا ولا نصل إليهم.
وكذلك فإنه نهاهم عن الانسياح في البحر المتوسط غرباً وأقسم أن لا يحمل فيه مسلماً ابداً، ونهى عمرو بن العاص عن الانسياح نحو مصر، ولكن عمرو بن العاص مارس دهاءً غير متوفع واستخدم الحيلة والمراوغة حتى تمكّن من دخول عريش مصر ، ومن هناك استأنف إلى الفسطاط ثم الاسكندرية.
وقد وجد عمر وجداً عظيماً على سلوك عمرو بن العاص، ولعلها كانت سبباً غير مباشر في استدعائه للتحقيق من مصر للمدينة بشأن ضرب رجلٍ قبطي، حين قال للقبطي: اضرب ولده ،ثم قال له أجِلْها على صلعة أبيه!! والله لو ضربته لم يمنعك منا أحد إنما ضربك بسلطان أبيه، وهناك نقل ابن الجوزي كلمة عمر بن الخطاب الخالدة: يا عمرو… متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً!!
ولكنّ أشد رجال السلام رفضاً للحرب والفتوحات إنما هو عمر بن عبد العزيز، فقد وصل الرجل إلى الحكم عام 99 هجرية، ولكنه سارع بشكلٍ غير معهود في تطبيق إصلاحات جوهرية ترمي الى وقف الحروب في العالم ومنع انسياح المسلمين في اراضي الأمم.
وبدأ باتجاه الشرق حيث شكّل على الفور لجنة قضاة خاصة برئاسة جميع بن حاضر وأرسلها في مهمة قضائية عاجلة إلى البلاد التي فتحها قتيبة بن مسلم قبل سنوات، وكان قتيبة قد اشتهر باسلوبه الدموي في الفتح، وكانت جيوشه لا تزال على تخوم الصين، رغم أنه مات قبل سنوات قليلة من تولي عمر بن عبد العزيز، وهناك نصب القضاة قوس العدالة في سمرقند، واستمعوا الى الناس، ونفّذوا بالحرف تعليمات عمر بن عبد العزيز أن يستمعوا لشكوى الناس، ثم صدروا بقرارٍ لا تردد فيه وهو أن هذا الفتح كان ظالماً لا يلتزم قيم العدالة والرحمة والتسامح، وعلى الفور يأمر عمر بن عبد العزيز بانسحاب تلك الحيوش من سمرقند وما حولها، وقد نفذ القرار على الفور على الرغم مما أثاره هذا القرار من موجة سخطٍ عارمة من قادة الجيوش والولاة المحليين الذين فقدوا وظائفهم بعد الانسجاب الإجباري من البلاد المفتوحة.
وفي الشمال أصدر الخليفة عمر بن عبد العزيز أمراً مدهشاً في وجوب انسحاب المسلمين عن القسطنطينية، وقد كانت القسطنطيبنة منية المحارب المسلم وكان يرى فيها وعد النبي وبشارته، وكانت تعتبر أكثر مواقع الفتوح حماسةً وإلهاباً، ولكن عمر أمر بانسجاب الجيوش المحاصرة للقطسنطينية على الفور وكان على الجيش البري مسلمة بن عبد الملك، وعلى الحيش البحري هبيرة بن عمر، ولم يقبل عمر أي تأخير أو إبطاء في وقف هذه الحرب.
أما الجانب الأكثر إدهاشاً في سلوك عمر بن عبد العزيز فقد كان الأمر بالخروج من الأندلس فقد عيّن فور ولايته السمح بن مالك الخولاني أميراً على الأندلس وقطع ولاية المغرب عليه ثم كتب إليه يأمره بوجوب الخروج من الأندلس وتركها لأهلها، وسحب كلّ الجيوش منها!
لا شكّ أنّ عملاً كهذا يعتبره الإسلاميون اليوم نكسة ونكبة وكارثة، وكفراناً لقيم الجهاد والفتوح والدعوة الإسلامية، ولكنّ عمر بن عبد العزيز كان يدرك طريقه تماماً ويعلم أنّ الحرب لن تأتي بالسلام ، وأنّ الطريق إلى أوربا مسدود تماماً حين تكون المعابر هي السيوف البتّارة، وأنّ السبيل الصحيح لدخول الإسلام إلى أوروبا هو الحوار والحجة والعقل والبرهان.
وفي الكتاب أيضاً دراسة عميقة للخليفتين الكبيرين الحكم المستنصر الأموي في الأندلس والناصر العباسي في بغداد، وكلاهما من الرموز التاريخية التي استطاعت أن تجنّب بلادها وشعبها أسوأ الحروب ، ونجحت في تكوين علاقات سلم ودبلوماسية وإخاء.
قناعتي أنّ الكتاب نوع جديد من الدراسات عن الإسلام، يمارس نقداً مباشراً بناءً لثقافة الفتوح التقليدية، ويقدّمه هذه المرة كاتب قادم من المحراب ومن الهيئات الإسلامية التقليدية في المدرسة والمنبر.
ربما تستطيع هذه الدراسة جزئياً أن تغيّر أسلوبنا في تلقين الأبناء من عبادة الحرب إلى تمجيد السلام.