اســــــتقلالـــــــــــنا واقـــتــــصادنــــــا
كمال كركوكي
تتناهى الى اسماعنا في الآونة الأخيرة الكثير من التحليلات السياسية التي تحاول تكيّف وضع إقليم كوردستان حسب ما يتناسب والرؤى السياسية لأصحابها. طارحةً في معظمها أفكاراً تتميز اولاً بأنها لا ترتقي الى مستوى التنظير الدقيق للواقع، كما وتقتطع وتجتزئ حقائق تجربة إقليم كوردستان منذ 19٩٢ والى يومنا هذا، وثانياً بأنها تحمل في طياتها الکثیر من المعادلات السياسية التي عفا عليها الزمن منذ القرن الماضي، ويتم بذل المحاولات الحثيثة لسحبها الى واقع وسياق لا يمت بصلة الى تلك الحقبة الزمنية.
وفي مجمل تلك التحليلات، فان المناهضين لمشروع إقليم كوردستان لإعلان دولته المستقلة، يحاولون وبشتى السبل، مستخدمين لغة التهديد تارة ولغة الترغيب في تارة أخرى، ان يحيّدوا ويحرفوا وجهة شعب كوردستان عن تحقيق أهدافه وتعطيلها بعدما أصبحت السياقات التاريخية تصب في اغلبها نحو تحقيق هذا الهدف.
وفي معرض مقالنا هذا، نود طرح بعض الرؤى والنظريات السياسية المتعلقة بإنشاء الدول وتطبيقاتها على إقليم كوردستان، وخصوصاً من المنظور الاقتصادي، وهي النقطة التي يركز عليها المناوئين في محاولةٍ لزرعِ مخاوفَ هي في الاحرى أدنى للتحقق إذا ما بقينا على الوضع الحالي، لا عندما نتقدم خطوة الى الامام.
وسيكون طرحنا للموضوع في الأطر التالية، مقارنة اقتصادية لواقع إقليم كوردستان الحالي، والتطرق الى تجارب كيانات سياسية أخرى مشابهة لتجربتنا في الإقليم. ومن الجدير بالذكر هنا ان هذه المقالة لن تتطرق الى حيثيات النضال في القضية الكوردية بل ستركز على تجربة بناء الدولة في إقليم كوردستان.
إقليم كوردستان والواقع الاقتصادي:
التركة الاقتصادية التي تسلمناها من النظام البائد ليست بالماضي البعيد عنّا، ليتم تجاهلها وبخطوات متعمدة ويتم التعتيم والقفز على الإنجازات التي تحققت منذ ذلك الحين.
فالفرد في إقليم كوردستان يتذكر جيداً ماهية البنى التحتية التي تسلمتها قيادة كوردستان في العام 1992، ويتذكر جيداً ماهية الإمكانيات المتواضعة التي كنّا تعمل بها، وماهية التحديات الكبرى التي كانت تواجه تجربتنا الفتية.
فلو ألقينا نظرة على اهم القطاعات الاقتصادية والخدمية لوجدنا الاتي:
القطاع الصحي، بعد ان تسلمنا مستشفيات مدمرة وخدمات صحية تكاد تكون معدومة في مختلف مناطق كوردستان عام 1992، عملنا على تطوير هذا القطاع الحيوي الى ان وصلنا بنسب انجاز برامج التطوير والتنمية الصحية الى ان نكون مقاربين في إحصاءاتنا لدولة الكويت، وبعيدين بأرقام كبيرة عن العراق. فمثلاً: نسبة الأطباء الى عدد السكان لدينا هي بمعدل (11) طبيب لكل (10،000) مواطن، مقارنة بالكويت والتي هي (18) طبيب لكل (10،000) مواطن. ومن الخراب الكبير في المستشفيات عام 1992، وصل عدد المستشفيات لدينا الى (74) مستشفى حسب إحصاءات عام 2014.
أما في قطاع التعليم، فمن المدارس المهدمة والصفوف المهجورة عام 1992، حقق إقليم كوردستان، بحلول عام 2013، أرقاما دولية في عدد المدارس الجديدة وفي عدد المنخرطين في الدراسة من الطلبة والطالبات وقد تفوقت ارقامنا في بعض مجالات التربية والتعليم على ارقام الدول المجاورة. فقد بلغ عدد المدارس (5950) مدرسة، بينما وصل عدد الطلبة الى أكثر من (1,555,000) طالب.
ولم يقتصر التطور والانجاز على القطاعات الخدمية بل امتد أيضا الى القطاعات الصناعية، التجارية، وقطاعات النقل والمواصلات والسياحة والسفر والتي تعتبر من اهم القطاعات الساندة لخطط التطور الاقتصادي الرصين في أي بلد.
وفي نظرة موجزة على مجمل تلك القطاعات، نجد ان التركة التي تسلمها شعب كوردستان عام 1992، لم تكن تنطوي على اية مصانع او بنى تحتية لأُسس تجارية او خطوط نقل، فالطرق المعروفة في إقليم كوردستان كانت تلك الطرق العسكرية التي كان يستخدمها الجيش والمدرعات والارتال العسكرية التي كانت توجه نيرانها ضد مدننا وقرانا وتقتل مدنيّنا وتهدم منازلنا.
أما الان فقد تطورّت قطاعات الصناعة بشكل طردي مع تطور الوضع السياسي والاقتصادي. حيث نجد انه في قطاع المنشأت الصناعية الصغيرة وصل عدد تلك المنشأت الى (10387)، عام 2013. أما في مجال المنشأت الصناعية الكبيرة ففي عام 2013 وصل عدد المنشأت الى (89) منشأة.
ولنأتي الى مجال السياحة، سنجد ان عدد الشركات السياحية في إقليم كوردستان وصل الى (269) شركة سياحية، وكان مجموع إيراداتها قد وصل الى (18) مليار دينار عام 2013. ولا يفوتنا ان نذكر هذه الأرقام جاءت في وقت كانت جميع تلك القطاعات كانت أصلاً معدومة في 1992.
ولننتقل الى قطاع النقل والمواصلات، ولنقارن إقليم كوردستان عام 1992، الذي كان محاصراً داخلياً في حدوده مع العراق، وخارجياً في حدوده الإقليمية مع إيران وتركيا. ولنقرأ في الأرقام والإحصاءات الخاصة بمطاري أربيل والسليمانية الدوليين الذي تم بناءهما كأحد أهم الأركان الأساسية للتقدم بتنفيذ استراتيجية أقليم كوردستان نحو تحقيق الاستقلال الاقتصادي. فقد بلغت عدد الرحلات الدولية لمطارات إقليم كوردستان (16،249) رحلة، وعدد الرحلات الداخلية (6969) رحلة، شكّل فيها المسافرون الأجانب نسبة (74.7%)، بينما شكّل المسافرون المحليون (25.3%) هذا في عام 2014.
أما في قطاع الطاقة بشقيها الرئيسين النفط والغاز، فإقليم كوردستان حقق انجازات تعتبر بحد ذاتها من أبرز الأهداف الطموحة التي تحققت نسبة مهمة منها الى الان، ونطمح ان يتطور بشكل أفضل خلال الفترة القادمة. فبعد ان كان قطاع الطاقة وادارته وبُناه التحتية شبه معدوم عام 1992، وصلنا بالإنجازات الى ارقام ارست لإقليم كوردستان أُطر واقعية لتوجيه علاقات إقليمية متوازنة مع كل من إيران وتركيا، كما وارست خطى بناءة نحو تحقيق الاستقلال الاقتصادي وتوسيع علاقات تجارية دولية. فقد وصل عدد الشركات الدولية العاملة في أقليم كوردستان الى (40) شركة دولية. هذا في الوقت الذي تصل فيه الاحتياطات النفطية والمخزون الاستراتيجي من الغاز الطبيعي الى احتياطي (45) بليون برميل من النفط، ومن100 الى 200 تريليون متر مكعب من الغاز الطبيعي. ووصلت صادراتنا الى ما يزيد عن (15) مليون برمیل نفط في شهر أيار 2015.
هذه الأرقام المختصرة تبين مدى التطور والانجاز الذي تحقق في إقليم كوردستان منذ 1992 والى يومنا هذا. كلنا يتذكر اننا في 1992 كان لدينا أكثر من (4500) قرية مهدمة، ولدينا من الشهداء والمفقودين في المقابر الجماعية لحملات الانفال أكثر من (182000) ألف شخص، هذا ناهيك عن الاعداد الهائلة من اعداد المفقودين الذين فُقِدَ أثرهم الى الان. كما وتم استعمال الأسلحة الكيميائية فيما يقارب (14) موقعاً في الإقليم، فقدنا في حلبجة لوحدها ما يقارب (5000) شخص. وتم تنفيذ عمليات جينوسايد وقتل جماعي متكررة ضد المدنيين العزل في كًرميان وباليسان وبادينان، وما الــ (12000) فيلي، والــ(8000) بارزاني الا أمثلة حية مازالت حاضرة في اذهاننا.
هذا ناهيك عن مقدار الدمار الذي حل بالبنى التحتية للقطاع الزراعي، وصل الى حد احراق النظام البائد لهكتارات لا تعد ولا تحصى من الأراضي الزراعية والغابات. وهكذا فبينما كان إقليم كوردستان ينتج ما يعادل (70%) من القمح على مستوى العراق في خمسينيات القرن الماضي، تحول في 1992 الى مساحات شاسعة مزروعة بالألغام والقنابل التي كانت تتفجر بمدنينا العزل.
لقد تسببت كل تلك السياسات القسرية والقمعية الى حرمان المجتمع الكوردستاني من مقومات الحياة السليمة وولّدت مشكلات اجتماعية واقتصادية معقدة جداً واجهنا أغلب تحدياتها عام 1992. فمدننا كانت مخربة، وقرانا كانت مهدمة، وطرقنا كانت مقفرة، وغاباتنا كانت محروقة، هذا هو الإرث الحقيقي الذي خلفته عقود الدكتاتورية العجاف. وهذا هو التقدم الذي وصلنا اليه من أسس بناء الدولة ومقوماتها. فحريٌ بان ننظر الى كامل الصورة الواقعية لإقليم كوردستان ونترك الانحياز السياسي ونسلّم بالحقائق الموجودة على الأرض.
إقليم كوردستان دولة لها كافة مقومات الدولة، حتى بالأزمات التي تمر بها. فلا يخفى على الجميع كيف ان جميع الدول النفطية، سواء تلك التي تملك ارثاً وخبرة طويلة في إدارة هذا القطاع او تلك الحديثة العهد بهذا الجزء الحيوي من اقتصاديات المنطقة، قد عانت وتأثرت بتحركات السوق النفطية العالمية وعدم استقراراها والانهيار السريع في الأسعار. فهذه دولة مثل السعودية تعرض (5%) من أسهم شركة أرامكو الى البيع في الأسواق المالية، وتعلن خفضاً في الانفاق الحكومي وتغيرات هيكلية في الاقتصاد السعودي، وكذلك الحال بالنسبة لأغلب دول منظمة أوبك. فهل يعني ان وجود ازمة اقتصادية كهذه تلغي دولة مثل السعودية او فنزويلا وتسلبها كيانها كدولة مستقلة فقط لتدهور الاقتصاد؟
وفي مثال اخر، الانهيار الاقتصادي العالمي الذي حدث في (2008)، وضرب اقتصاديات دولاً عديدة في الصميم سواء كانت كبيرة أو صغيرة، مثل أمريكا وايسلندا، فهل يعني انهيار الاقتصاد، انهيار الدولة وتوقفها عن كينونتها كدولة؟
إقليم كوردستان يمر بأزمة اقتصادية حادة جداً وهذا ما تعترف به الحكومة والقيادة الكوردية، وهذا ما تتكاتف جهودنا لوضع الحلول الناجعة نحو عبور هذه الازمة وهذه المرحلة، ونحن لدينا كافة المقومات التي تؤهلنا لذلك. وهذه ليست شعارات نرددها بل هي تحليلات ونتائج دراسات نشرها البنك الدولي مؤخراً حول إقليم كوردستان.
ففي معرض التقرير الذي يتحدث عن الازمة الاقتصادية في إقليم كوردستان وسبل حلها، يأتي البنك الدولي، هذه المؤسسة الدولية العريقة والحيادية، ليذكر أن إقليم كوردستان لديه كافة المقومات ويتمتع بعوامل عديدة تؤهله للنجاح في عبور هذه الازمة.
ومن اهم خصائص الإقليم والتي يذكرها تقرير البنك الدولي: 1) وجود خزين كبير من احتياطي النفط والغاز، 2) أراضي زراعية خصبة، 3) شعب اغلبيته من الشباب، 4) الموقع الجغرافي الذي يتوسط خطوط النقل والتجارة الاستراتيجية، 5) حكومة عازمة على تصحيح الأخطاء وتنفيذ الحلول، 6) مجتمع دولي (دول مانحة) ملتزمة بتقديم المساعدة، 7) وروحية القطاع الخاص والعمل لدى شعب الإقليم.
هذا بمجموعها أيضا هي مقومات ومرتكزات دولة كوردستان، والتي تحققت عبر عملية تنموية وتطويرية متواترة منذ 1992، فخلال هذه الفترة الزمنية التي لم تخلو من الصعاب والتحديات، واخرها ما نشهده من حربنا ضد أعتى منظمة إرهابية، استطعنا ان نسير بعمليتي بناء الدولة وبناء الامة بشكل ناجح جداً، تبلورت انعكاساته بقدرة الإقليم وشعب كوردستان على تحمل هذه الأزمة الاقتصادية والتصدي لها والعمل على إيجاد الحلول لها. فهذا هو شعبنا وهذه هي قيادتنا، نحن شعب لا نيأس، وقيادة لا تعرف الكلل في سبيل تحقيق طموحات شعبنا المشروعة.
إقليم كوردستان والتجارب الدولية المشابهة:
وبالعودة الى تجارب كيانات سياسية متشابهة، فإنه حقيقة لمن المُشين ان تحاول بعض القوى السياسية وعن طريق ابواقها الإعلامية ان تذر الرماد في العيون وتُزيّف المنظور الجماهيري وتُزيّف الحقائق بالعمل على ذكر بعض التجارب التي تمر بصعوبات ما بعد اعلان الدولة، ومحاولة المقارنة فيما بينها وبين تجربة إقليم كوردستان، كما وتحرص تلك الابواق على ذكر تجربة او اثنين من التجارب المتعثرة وتتمنع عن ذكر الكثير من التجارب الأخرى لكيانات سياسية أعلنت استقلالها وهي لا تملك المقومات والركائز التي يملكها إقليم كوردستان، ولم تصل في نضج عملية التطور السياسي فيها الى ما وصل أليه إقليم كوردستان. فكيانات سياسية مثل ابغازيا وجنوب اوسيتا وناكورني كارباخ و صوماليلاند جميعها أعلنت استقلالها في وقت لم تكن حينها قد أكملت او تطورت بالقدر الذي تطور فيه إقليم كوردستان الان. حيث اعلنت تلك الكيانات الاستقلال من جهة واحدة، ما بين الأعوام 1991-1992. وجميع تلك الدول لازالت قائمة الى الان، أي مر مايقارب (25) عاماً على استقلالها.
وعلى سبيل المثال، فدولة صوماليلاند والتي تقع شمال الصومال احتفلت بهذا الإنجاز، واحتفلت بانها لم تواجه الحروب والإرهاب والتدهور الذي واجهته وتواجهه الى الان الصومال. وبالرغم من اننا نعي تماما ان هذه الدول لم تستطع الى الان ان تنتزع الاعتراف الدولي بها، وهناك عدد قليل من الدول التي تعترف بهم، الا ان هذا لم يؤدي الى انهيارهم، او الى امتناع المجتمع الدولي من التعامل معهم.
وهذه نقطة جوهرية في عملية تقيّمنا لواقع المجتمع الدولي، ولواقع العلاقات الدولية والإقليمية لإقليم كوردستان. فإقليم كوردستان قد وصل الى مراحل مهمة ومتقدمة جداً من مراحل تبلور الدولة، ومن حصوله على سيادة وشرعية دولية، حتى لو كان ذلك بدون اعتراف رسمي كامل الان. لذلك فحريٌ بإقليم كوردستان ان يقوم بهذه الخطوة بأسرع وقت ممكن.
وعلى عكس ما يحاول ان يروجه المناوئين لمشروع الاستقلال، فان شعب كوردستان يعي تماماً حيثيات قرار الرئيس بارزاني بضرورة القيام بالاستفتاء او المضي مباشرة بقرار اعلان الاستقلال واهمية عدم الانجراف وراء الرؤى الضيقة لمصالح حزبية وفردية لا تُعَبر عن المصلحة العامة او مصلحة وتضحيات الشعب الكوردي بصلة.
واخيراً، فمن الجدير بالقول، ان خطوة أعلان الاستقلال، او على اقل تقدير القيام باستفتاء حق تقرير المصير، هي أكثر خطوة تقينا الكثير من المصاعب والتحديات الأمنية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي يشهدها العراق.
فالعراق يتجه يوماً بعد يوم الى المجهول، وتتناقض فيه القوى الاجتماعية والطائفية، وتفككه ليس حديث اليوم بل هي عملية نتجت من سنوات وعقود من العنف السياسي والعسكري.
لذلك، واضافة الى كل مرتكزات حق تقرير المصير للشعب الكوردي، والتي تشكل الأساس القانوني والدولي للقضية الكوردية، الا ان الوضع العراقي الحالي بأزماته المتشعبة يعطينا دافعا اخر وعاملاً اقوى للقيام بخطوة الاستقلال.
واخيراً، فمن الجدير بالقول، ان تلك القوى بضبابية رؤيتها، وتأرجح هوياتها ومفهومها للقضية الكوردية، ونكرانها لنجاح تجربة بناء الدولة وبناء الامة لإقليم كوردستان، لن تستطيع ان تثني شعب وقيادة كوردستان من ان يتخذوا الخطوة الصحيحة نحو تحقيق طموحنا التاريخي لنيل حريتنا وإعلان دولتنا المستقلة.