الأحزاب الكُردية السورية ومسؤولية المراجعات المطلوبة

د. عبدالباسط سيدا

جمعني مجلس صديق في الآونة الأخيرة مع قيادي كُردي سوري؛ وكالعادة في مثل هذه المناسبات، تكون السياسة هي المهيمِنة على الحديث.

ما فوجئت به هو أنّ القيادي المذكور قدّم لنا محاضرة طويلة حول أهمية بناء العلاقات مع شركاء الوطن خاصةً العرب، وضرورة إقناعهم بحقوق الكُرد في سوريا؛ لأنه من دون ذلك لن يحصل الكٌرد على شيء. بل سيفقدون كلّ شيء. وسرد لنا جملة من البدهيات التي غابت عن ذهنه، وذهن معظم قيادات الأحزاب الكُردية السورية في الأيام الأولى للثورة السورية؛ وذلك حين رفعت تلك الأحزاب من سقف المطالب، والتقت بصورة مباشرة أو غير مباشرة مع أطروحات “حزب العمال الكُردستاني” الوظيفية التضليلية عبر واجهته السورية “حزب الاتحاد الديمقراطي”، الذي كان قد أُدخِل أصلاً إلى الساحة الكردية السورية لقطع الطريق على اتساع نطاق تفاعل الكُرد مع الثورة عبر التنسيقيات الشبابية الكُردية، وهي التنسيقيات التي كانت تنظّم المظاهرات والاعتصامات في مختلف المدن والبلدات في المناطق الكُردية.

ولعلنا لا نبالغ إذا ما قلنا إنّ التفاعل الكُردي القوي مع الثورة السورية كان من شأنه إحداث تغييرٍ نوعي في المعادلات، إن لم نقل إنه كان سيؤدّي إلى إسقاط السلطة الحاكمة. هذا في وقتٍ لم تكن جبهة النصرة قد ظهرت، ولم يكن هناك أيّ حديثٍ عن داعش.

كما كان التعاطف السوري العام مع القضية الكٌردية السورية في أوجه.هذا ما كنا نتلمّسه، بل نشاهده ونسمعه من خلال اللقاءات والحوارات التي كانت مع الشباب السوري من مختلف المكونات السورية، ومن شتى المناطق السورية.

القراءة الخاطئة للوضع السوري في بدايات الثورة من قبل مختلف القوى هي التي أدّت إلى الحصيلة التي نواجهها اليوم.

فالقوى الإسلاموية كانت تعتقد أنّ الأمور ستُحسَم سريعاً لصالحها ، أسوةً بما كان قد حدث في تونس ومصر في ذلك الحين، والتيارات القوموية العربية كانت تعتقد أنّ التغيير سيكون من خلال تغيير قمة الهرم، لتستمرّ السياسات القوموية عبر حزب البعث أو غيره على حالها؛ هذا في حين أنّ الأحزاب والقوى الكُردية كانت تعتقد أنّ تجربة كُردستان العراق ستتكرّر في سوريا أيضاً.

ولكن ما حصل على أرض الواقع، هو أنّ استرتيجية السلطة، التي كانت ترمي إلى الربط بين الثورة والإرهاب، حقّقت أهدافها عبر زرع بذور الشقاق بين السوريين، وإبعاد جميع المكونات السورية ما عدا المكون العربي السني عن الثورة، وقد أدّى هذا الأمر إلى هيمنة خطابٍ مذهبي قوموي مقيت، ما زلنا نعاني من آثاره السلبية.

أما على صعيد العلاقة العربية الكُردية، فقد باتت بكلّ أسفٍ في أصعب مراحلها، وهنا لا بدّ أن تتساءل القيادات الكُردية عن السبب، وتحاسِبُ نفسها على تصريحاتها غير المدروسة، وعلى ممارساتها الشعبوية، وعدم تطابق سلوكياتها الخاصة مع ما كانت تدعو إليه، وتطالب الناس به.

هناك تفاصيل كثيرة في هذا المجال لا داعي لتناولها هنا، إذ تثير الكثير من الحزن والألم والغضب. غير أنّ هذا ليس معناه أن لا نحمّل السلطة والمرتبطين بها ، وأصحاب التوجهات القوموية والأصولية المتشدّدة في المعارضة قسطاً كبيرا من مسوؤلية ما حدث ويحدث سواءً بتصريحاتها أم بممارساتها. ولكننا هنا نركّز على الوضع الكُردي باعتباره موضوع الحديث هنا.

واليوم، وبعد أن ترك نحو مليون كُردي مساكنهم وديارهم، وعلى إثر كلّ ما تعرّضت له مناطق عفرين ورأس العين، وبعد تحكّم حزب العمال الكُردستاني بكلّ مفاصل الحياة في منطقة الجزيرة، وما ترتّب على ذلك من انهيارٍ للتعليم والقيم الأخلاقية، وانتشار الفساد بأشكاله ومظاهره المختلفة، والأزمة المعيشية القاسية التي يعاني منها الناس؛ واستشهاد الآلاف من الشباب في مشاريع تعهدات حزب العمال، وتحوّل عشرات الآلاف إلى أنصاف أميين، إن لم نقل أميين بالفعل؛ نأتي لنشدّد على بدهياتٍ كان علينا أن نعتمدها قبل أكثر من عشر سنوات، ونتبصّر بموجبها ملامح الآتي انطلاقاً من دراستنا لواقع التفاعل بين المعادلات الإقليمية والدولية.

فالسياسي الحريص على شعبه يقرأ الأحداث، ويستشفّ التوجهات، ويقدّم الخطط والنصائح التي تجنّب الناس الكوارث والويّلات. السياسي الحريص على شعبه يميّز بين المطالب الواقعية الممكنة، والرغبات الشعاراتية الشعبوية التي تدغدغ العواطف، وتثير الحماس والانفعالات، ولكنها على الصعيد الواقعي لا تحصّل شيئاً، بل تضرّ.

ولكن مهما يكن، فإن نعترف بأخطائنا، ونقرّ بضرورة مراجعة حساباتنا، فهذا معناه أننا بدأنا نأخذ بمقومات التفكير الصحيح.
إلا أنّ مثل هذه المراجعات لايمكن أن تكون ناجعة، إذا ما كانت مرتبطة بحسابات انتهازية آنية، وإنما لا بدّ أن تكون ضمن مشروع متكامل تعتمده الأحزاب الكُردية بصورةٍ عامة. مشروع يقرّ بالأخطاء التي كانت، ويؤكّد أهمية تجاوز العقلية المترهّلة للقيادات التي أخفقت حتى الآن، وعلى مدى عقودٌ من وجودها في موقع القيادة، من تقديم أيّ انجاز ٍيمكن التعويل عليه، وتطويره نحو الأفضل. فقد غدت هذه القيادات عقبةً أمام الطاقات الشابة المتجدّدة، كما أنّ خصوماتها البينية، وتكتيكاتها العقيمة قد تسبّب في ابتعاد الكثير من الشباب عن العمل الحزبي، وتوجّههم نحو مشاريع أخرى قد توفّر فرص النجاح على المستوى الفردي، إلا أنها على المستوى الجماعي، لا تؤدّي إلى تغييرٍ نوعي نحو الأفضل في اللوحة السياسية الكُردية العامة.

أما بالنسبة إلى حزب العمال الكُردستاني الذي استولى على الورقة الكُردية السورية عبر واجهاته المختلفة، واستغلّ عدالتها في تسويق المشاريع الوظيفية التي يُكلّف بها إقليمياً أو دولياً. فهو اليوم يعيش واقع تهافت الشعارات العاطفية التي رفعها في بداية الثورة السورية، ودغدغ من خلالها المشاعر القومية الكُردية، تماماً مثلما فعل حزب الله في لبنان، من خلال رفع شعارات المقاومة والممانعة،فاليوم، وبعد أن ذاب الثلج وبانَ المرج كما يقول المثل، يكتشف الكُرد السوريون كيف أنّ هذا الحزب قد استخدم أبناءهم وبناتهم وقوداً في مشاريعه الخاصة، واستولى على مقدّرات المنطقة،وقام بمهام الشركة الأمنية التي تقدّم الخدمات من موقعٍ مهني وظيفي بحت، لا علاقة له بالبرامج السياسية والتوجّهات التي يدّعيها، وتمكّن بفعل ذلك من بناء علاقةٍ مصلحية عابرة مع جهاتٍ دولية، وجدت في الحزب المذكور ضالتها، جهاتٍ تستخدم إمكانيات الحزب المعني التنظيمية في مشاريعها، وبما يتوافق مع حساباتها.

والجدير بالذكر هنا، هو أنّ السؤال: لماذا حدث كلّ هذا؟ يندرج هو الآخر ضمن المراجعات التي لابدّ أن تجريها الأحزاب الكُردية السورية؛ إذا كانت جادة في عملية معالجة أخطائها.

لا نذيع سراً ،إذا ما قلنا إنّ الوضع الكُردي السوري الراهن لا يبشّر بالخير، إذا ما ظلّت أوضاع الأحزاب الكُردية الراهنة على حالها، ومن دون أيّ تغييرٍ في المواقف والسياسات، بل سنشهد المزيد من الهجرة، والمزيد من التغييرات الديموغرافية، وكلّ ذلك لن يكون لصالح الكُرد السوريين، هذا بصرف النظر عن طبيعة الحلول التي ستُعتمَد في المستقبل.

المقالة منشورة في جريدة يكيتي العدد 295