الاستبداد والمثقف المتلوّن مابين الكواكبي وغرامشي وتطبيق بورديو
وليد حاج عبدالقادر / دبي
حين التعرّض للاستبداد ومفرداته لابدّ أن يُثار في الذاكرة اسم الكواكبي كأبرع ممن قاموا في توصيفه وفكفكة أسبابه وعوامله ، وذلك في مؤلّفه طبائع الاستبداد حيث يقول : / .الحكومة المستبدة تكون طبعاً مستبدة في كلّ فروعها ، من المستبد الأعظم إلى الشرطي ، إلى الفرّاش ، إلى كناسي الشوارع ، ولا يكون كلّ صنفٍ إلّا من أسفل أهل طبقته أخلاقاً ، لأنّ الأسافل لا يهمّهم طبعاً الكرامة وحسن السمعة ، إنما غاية مسعاهم أن يبرهنوا لمخدوميهم بأنهم على شاكلته .. / ..
وأضاف عليه مفكر آخر معللاً أكثر ( للأسف لا أتذكّر اسمه ) : كلّ عنصرٍ مسلح عند طاغية هو طاغية وكلّ منظّر ٍللاستبداد ويبرّر له هو أبشع من المستبد نفسه وبسلاحه .. / ، هذا التوصيف الأشد إيلاماً وبالترافق مع ممارسات الاستبداد وفظاعاته تؤدّي وبجبرية ليس للإحباط بقدر ما إلى طغيان أنظمة مثل – البعث الذي لم يزل في نظر بعض المؤدلجين هي عقيدة ، على حد توصيف غرامشي ومفهومه للهيمنة بنوعيه الجبري والذهني ويفسّرها ( .. كشكلٍ من أشكال السيطرة المبنيّة على / الجمع بين القوة والقبول اللذان يتوازنان بأسلوب متفاوت ، دون أن تتغلّب القوة بشكلٍ مفرط على القبول ، بل تسعى لأن تبدو هذه القوة مُستندة على قبول الأغلبية ) ..
وعليه يجب تمييز(..الهيمنة عن الدكتاتورية وعن الاستبداد، والتي هي أنظمة يسود فيها الإكراه ويُطبّق تعسفياً بدون معايير تنظيمية… ) . هذه الهيمنة التي تنظّم داخل المجتمع المدني والتي تخضع بالضرورة لهيمنة الدولة التي تستند أصلاً على فكرة القبول والمشاركة الواعية والطوعية للمهيمن عليهم وكتوصيفٍ تجريبي لخّصه بيير بورديو في قراءته لغرامشي ( .. الشيء الأكثر إثارةً للاهتمام عند غرامشي والذي قرأتُهُ مؤخراً، هي تلك العناصر التي يُقدّمها لعلمِ اجتماعِ رجلِ جهازِ الحزب ولحقلِ القادةِ الشيوعيين في عصره – كلّ هذا بعيداً عن إيديولوجيا «العضويّة» التي هو الأشهر فيها .. ) – بيير بورديو، أشياء مقولة، 1987، ص. 39 – . وعليه فإن تيأس من الساسة وأتباعهم وعلى قاعدة الشللية وهم يتشطرون في فن زراعة الكراهية !! ويقيسون العالم على مقاسهم ، فيختزلون قناعتاهم على هديها كما الوطن والقضية ككلماتٍ في أحزابهم ولايرون في الآخرين سوى قطعاً يحرّكونهم في ساحات شطرنجهم ! . وهنا ؟ ألا يحقّ لأولئك التساؤل : أهذه هي ديمقراطيتكم ؟
أولستم والحالة هذه كمثل ذلك الذي يبحث عن جزيرة يعلب أسماكها سرديناً مملّحاً ؟
يقال بأنّ فعل الهدم والبناء بينهما شعرة وهذه الشعرة هي التي تقصم ظهر لا البعير كحيوانٍ بريء نلصق به عاهاتنا ، وإنما البعير الذي يصرّ أن يجعل من هدمه المدمّر فعلاً . تقول الحكمة الشعبية في الظواهر بأنها عندما تكون طفرة تتمدّد وتتضخّم بسرعة قصوى تذهل أولئك المتجولقين في نطاقية الظاهرة الى أن تصل إلى التخمة وهنا ، وكالإعصار الذي يفرغ شحناته وتبدأ بالبعثرة فتطفح كلّ العوامل الكامنة بتناقضٍ ودجل واضحين ، وتبدأ عملية الإنشطارات أمام لوحة الصدمة وهول عبثية الزخارف لبيوتاتٍ من ثلج هي كانت أو رمال وكمثالٍ في الصدمة القمعية : يذكر عن بينوشيه في تشيلي ، وكواحدٍ من أشهر طغاة العصر ، أن أشدّ ما كان يغيظه هي حملات الدفاع عن حقوق اﻹنسان ، وبول بوت في كمبوديا كان يقيم الوﻻئم لخصومه العسكرببن ولكنه يدعو إلى فقء عيون دعاة ونشطاء المجتمع المدني ، وبشار الأسد الطاغية يمزّق أغشية الطبل في آذانهم بالمسامير .. وهنا ، علينا أن نستذكر بأنّ ذلك ستصبح جريمة مزدوجة بحجم ممارستها لا للساكت عنها فقط وإنما لمبرّرها ، لأنه وببساطة ! ﻻتقية للقمع وﻻ حتى طهارة كما طهر يسمو فوق حرية اﻹنسان وحقوقه ، نعم ! قد يحلو لبعضهم التعلل بالذرائعية في أي مجال سوى مقايضة حقوق اﻹنسان والركض بها وراءً ، هذا الأمر الذي سيدفعنا وبقوة في العودة إلى المثقفين وانماط الوعي المنتج ، أو الأنساق الثقافية والتي شرحها الكاتب محمد بن علي المحمود في جريدة الرياض يوم 20/8/2020 في مقال له بعنوان البديل الثقافي فيراها ( .. المحرك الفعلي لكافة أنواع التمظهر السلوكي المتعين ، وهي النظام الصارم الدقيق الذي يتخلّل جميع خلايا و أنسجة ذلك المجتمع، فيدفع به حيناً ويمنعه احياناً، ويبيح له شيئاً ويحظر عليه اشياء، ويضع له التراتبية القيمية – وربما المعرفية – في كلّ ما يدخل في نطاق وعيه. وبهذا تكون هذه الأنساق الثقافية .. أشبه بالشبكة الخفية التي لا تظهر بقدر ما تظهر آثارها ونتائجها بجلاء، على هيئة مفردات سلوكية، قابلة لأن تقرأ في نسقها، بحيث تتراءى كلّ مجموعة منها في نسق واحد تنتمي إليه ، مهما كانت متباينة ومتضادة في ظاهرة تجليها… ) ، وبديهي أنّ هذه النسقيات لن تسهينا عن غرامشي ومقولته في الأداة – اليد التنفيذية ( .. إنّ العامل لديه جهوزيةٌ وملكاتٌ طبيعية ليكون مُنفِّذاً، جهوزيةٌ ينقلها إلى كلّ الميادين». (بيير بورديو، التمايز 1979، ص. 448).
وباختصار ! فإنّّ أشد ما يثير السخرية والاستغراب في ممارسات – حتى لا نقول سقطات – بعض من أشباه الكتاب والمثقفين العملية !! ـ فيرون في قناعاتهم – كما غرامشي – بأنّ ( .. النشاط العملي للتحول الجماعي للعالم كأساس للحس السليم وكطريق .. يؤدّي الى الوعي الطبقي .. ) وأنهم على قدر ابتعادهم – مثلاً – عن همومهم الخاصة ، لا بل والمماهاة فيها الى درجة الذوبان ، فيحاول بعضهم كما الرجل الوطواط أن يتعالى على همه القومي فلا جسده يعلو به ولا أقدامه تتشبّث بالأرض ، بقدر ما يصبح كريشٍ وقد لفظتها الدجاجة أو فكّت هي نفسها منها فتتراقص متدحرجة مع أقل نسمة حتى قبل أن تتحوّل الى زوبعة ، كلّ ذلك بالتضاد مع موقف ثان ( .. يتصوّر النشاط العملي بطريقة معاكسة – حيث لا يوجد وعي طبقي بل قبول العالم – .. ) . هذا الأمر الذي أفرز دراسات عالمية طمحت – ولم تزل – ( .. إلى معرفة هويات الأقليات بمنحها قوى جديدة للفعل . بدأ يتبدّى مفهوم الهوية مع نزعة تصوره – كمفهوم مغلق – جوهرياً . )
إنّ أشدّ مايغيظ في المثقف هو محاولته القفز على المصطلح والتلاعب به فيحملّه بقصد وسوء نية معان لا يمكن تحميلها ! وكمثال : مفهوم اللامركزية المتقوقعة في المناطقية ، والتي هي عينها ذي طابع إداري لا تتجاوز أبداً مفهوم الأيالات العثمانية والمحافظات ، لابل الفدراليات أيضاً بضمّ عدة مقاطع أو محافظات وتشكيل خاصية إقليمية بينهما ، الأمر الذي يطرح سؤالاً مهما حول التفسيرات الواهمة لمدلولات واضحة ولكنها تعلن كأمنيات باطنية ، ومن جديد وكعنوان مضغوط ومكثف لمفهوم الفيدرالية وشروحاتها مثل الديمغرافية التي لا تعبّر مطلقاً ولا يمكن احتسابها منجزاً قومياً … تلك التعريفات المبهمة والحمالة لمعان متناقضة ، هي في الواقع قمة في الاستخفاف بآفاق وعي بعضنا ، وبالأخص فيمن يتجرّأ في قول الحقيقة وتجلياتها ، هذا الأمر الذي سيدفعنا للتطرّق إلى شلليات المثقفين وأنماطهم ، خاصةً المثقف الأخطبوطي أو الهلامي الذي ينفخ في قربته الذاتية الجوفاء ، والمهووس بنرجسية تتحكّمه بلذائذية ، وكهاجس نفسي يتأرجح وبنشاذ ينفخ على وترها يصدّق بأنه الأبرع معرفةً في كلّ ما خلقه ووهبه الله ولتصبح عنده مثل العاهة إن لم يجد أحداً يشاغبه فيصرخ بذاته ولذاته وبقرف خارج الزمكان ، يتظاهر بالتعالي على المعرفة التي تتجاهله هي وترميه في عالم الأبواق … ومثله هناك نمط المثقف المتهاوي الذي عرفناه – كُردياً – من خلال – دكتور عمر ميراني – الذي برّر كل ممارسات صدام بحق كُردستان وشعبها ، أما أكثرهم تمظهراً لدرجة أنه أصبح أنموذجاً للمتبرّئين من قوميتهم وأعني به – محمد كرد علي – وهناك أيضاً أنموذج علي عقلة عرسان والذي في فترته أصبح اتحاد الكتاب في سوريا كفرع من فروع الأمن ، وعلينا ألا ننسى ظاهرة جابر عصفور الذي أعطى درساً تطبيقياً في الانحدار الكبير كنتاج لشهوة السلطة / الوظيفة حيث استوزر لفترة قبل سقوط حسني مبارك … وباختصار إنّ المثقف الانتهازي يجرجر الحقائق ويفنشها تبريراً لصالح السلطات ويبذل المستحيل لتجميل الأخطاء ويصبح همه الأساس فقط كالراعي يزيد من العلف ويتمظهر بمسلكية المردد في سلملك الأنظمة يدرك هو بالذات أولا ! كم يستهلك من رصيده الشخصي لا أكثر .