الانتحار وتداعياته الاجتماعية والسلوكية
كفاح محمود كريم
تختلف عملية الانتحار وأسبابها، ما بين انتحار فردي لأسباب خاصة، أو انتحار عقائدي يذهب ضحيته كثير من الأبرياء، وانتحار سياسي نتيجة عمل ما يؤدي لإنهاء موقع صاحبه، أو انتحار فردي يحرض فيه صاحبه الأهالي على رفض النظام السياسي، وفي معظم هذه الأنواع يكون الانتحار عملية إنهاء الحياة، ويتم ذلك غالباً بسبب اليأس، الذي كثيراً ما يُعزى إلى اضطراب نفسي مثل الاكتئاب أو الكآبة الاضطهادية أو الفصام أو إدمان الكحول أو تعاطي المخدرات، إضافة إلى عوامل الإجهاد المفرط مثل الصعوبات المالية أو موت شخص عزيز أو إشكاليات اجتماعية تتعلق بالسمعة، خصوصاً موضوع الشرف الشخصي، وفي كل الحالات هو جريمة قتل محرمة دينياً، وقانونياً اختلفت فيها الآراء من حيث لا عقوبة لمن ينتحر، بل لمن يساعد أو يحرض على الانتحار.
ورغم ذلك، فإن المجتمع والنظام الاجتماعي والسياسي يتحمل وزر كثير من هذه الحالات، حيث يرتبط المزاج العام للأهالي في المجتمعات عموماً بعدة عوامل؛ أهمها العوامل الثلاثة المترابطة مع بعضها ترابطاً ينتج نمط الحالة السيكولوجية لمعظم المجتمعات؛ وهي العوامل الاقتصادية والسياسية والأمنية، حيث تؤثر بشكل مباشر وحاد في مزاج الأهالي وحالتهم النفسية وتتحكم بالانفعالات الجمعية وحتى الفردية سلباً وإيجاباً، وهي بالتالي ترسم اتجاهات الأمل والإحباط أو اليأس لدى مساحات واسعة من الشبيبة، بل تكاد تتحمل مسؤولية ديناميكية تلك المجتمعات أو خمولها وبطء حركتها، ومساهمة الطقس، وتأثيرات ذلك على المزاج العام للأهالي في غياب كثير من الخدمات الأساسية لمعالجة تلك الظاهرة الحرارية في معظم تلك البلدان، وبمطالعة سريعة لحركات التغيير الفوقي الحاد في النظم السياسية، أو ما يسمى الانقلابات نراها تتكثف لمدى تأثير الجو أيضاً على المزاج العام والحالة النفسية المتقدة.
وفي خضم مجتمعات كهذه متشنجة في تركيبها النفسي يصاب فيها كثير من الأفراد باليأس والإحباط الذاتي المتأتي من إشكالات شخصية سواء كانت مادية أو اجتماعية، كقضايا الشرف والإفلاس والفقر والخيانة، حيث تسهم هذه المنظومة من الأسباب إلى نمو وتضخم حالة الاضطهاد الذاتي الذي يفضي إلى قرار إنهاء تلك الإشكاليات بالانتحار، هذا على المستوى الفردي ولأسباب تتعلق بالفرد شخصياً، لكن أكثر أنواع الانتحار دراماتيكية تلك التي تُسببها دوافع سياسية تتعلق بطبيعة النظام السياسي وسلوكه تجاه الشعب، وتأتي كرد فعل على فعل نظام طاغٍ في حكمه يحاول المنتحر التضحية بنفسه أمام الناس ووسائل الإعلام بالعكس من حالات الانتحار الشخصي التي تكون في معظمها سرية أو غير مرئية، وبهذا العمل في الانتحار السياسي يكون الفاعل قد أوصل رسالة إلى النظام وحرض فيها الأهالي على الانتفاض، مستخدماً في معظم هذه الحالات الانتحار حرقاً وأمام المئات أو الآلاف من المتظاهرين.
وفي هذا الصدد يقول الباحث ميكائيل عياري وهو أحد الباحثين بمعهد الأبحاث والدراسات حول العالمين العربي والإسلامي، إن «هذه السلسلة من الانتحار حرقاً علامة على مأزق سياسي وفراغ فكري، تكشف أيضاً الخلل الذي تعاني منه المجتمعات العربية»، ويضيف الباحث: «على الصعيد الرمزي فإن النار تدمر وتبني، تميت وتحيي، على صورة طائر الفينيق الذي يبعث من رماده… وقد تمثل هذه الظاهرة أيضاً حالة من التجدد السياسي: أحرق نفسي وأدمر الذين يدمروننا».
ولكي نُفرق بين العمليات الانتحارية التي نفذتها «القاعدة» وبقية التنظيمات المتطرفة كنوع من أنواع المقاومة التي يذهب ضحيتها العشرات من المدنيين الأبرياء، وعمليات الانتحار الفردي التي قام بها مناوئون للنظم السياسية كرسالة احتجاج قاسية، يجب أن ندرك أن الأخيرة لا تؤدي إلى أي خسائر في الآخرين كالأولى، ولعل أولئك الذين أحرقوا أنفسهم احتجاجاً على طبيعة أنظمة دولهم السياسية، وآخرهم محمد البو عزيزي في تونس وما أعقب تلك العملية من عمليات أخرى من قبل مجموعات الشباب العزل تعبيراً عن رفض الواقع السياسي لبلدانهم، عبروا عن مظاهر مأساوية مؤلمة لعمليات انتحار كرد فعل على تلك الأنظمة الفاسدة، وهي واحدة من أكثر وسائل التعبير قساوة على الذات في كراهية النظام والطغاة، حينما يقرر أصحابها حرق أجسادهم ليترجموا تلك المشاعر استنكاراً وصرخة معبقة بألم الموت احتراقاً من أجل إيصال الفكرة وإثارة الرأي العام والجمهور لكي يتحرك باتجاه الهدف، متوخياً ألا يؤذي من حوله بأي شكل من الأشكال.
من المفيد أن نذكر أن تلك العمليات الانتحارية الفردية التي عبرت عن رفض مطلق للنظام السياسي في دولها، بل أسهمت بشكل كبير في صناعة رفض جمعي تمخض عن تظاهرات كبيرة أدت إلى إسقاط تلك الأنظمة، إلا أنها أحدثت تغييراً حاداً في سيكولوجية تلك المجتمعات، وكانت نتائجها هي الأخرى كارثية على السلوك وردود الأفعال فيما بعد، حيث أنتجت شعوراً انتقامياً وسلوكاً قاسياً وردوداً متوحشة في تعاملها مع رموز تلك الأنظمة وبيئتها، وما حصل ويحصل من فوضى عارمة في كل من العراق وسوريا واليمن وليبيا يؤكد أن تلك القساوة في الاتقاد الآدمي، توحدت مع قسوة وأساليب التعذيب والاضطهاد التي مارستها تلك الأنظمة لتنتج الطرف الآخر من المعادلة التي نشهدها اليوم في هذه البلدان، من عمليات الانتقام والتقاتل وانهيار منظومات الأمن والسلم الاجتماعيين فيها، ما أدى إلى تفككها وتناحر مكوناتها تحت مظلات ومنظومات من الشعارات والتنظيمات خارج مفهوم الدولة ومبدأ المواطنة، أبعدها كثيراً عن أهدافها في إقامة نظام سياسي واجتماعي أفضل من الذي سبقه!
aawat