آراء

البراغماتية الأمريكية والانتهازيات المحلية

عبدالباسط سيدا

أُعلن مؤخراً عن لقاء وحوار، وعلى الأغلب لقاءات وحوارات، تمت بين «أبو محمد الجولاني» زعيم جبهة النصرة التي تعرف اليوم بـ «هيئة تحرير الشام» والصحافي الأمريكي المخضرم مارتن سميث، المعروف بتحقيقاته المرئية وكتاباته حول القضايا الصعبة في مختلف أنحاء العالم. وكان اللافت هو غعلان كل من سميث والناطق باسم الهيئة بأن الصور المنشورة حول اللقاء هي في سياق جولة استمرت ثلاثة أيام، قضاها الصحافي الأمريكي في ضيافة «الجولاني» في إدلب؛ هذا رغم مكافأة الـ 10 ملايين دولار التي أعلنتها الولايات المتحدة الأمريكية لكل من يدلي بمعلومات تؤدي إلى إلقاء القبض على «الجولاني».

لقد أثار هذا الخبر الكثير من التساؤلات والتوقعات؛ منها حول ما إذا كانت الزيارة هي مجرد مبادرة شخصية من الصحافي الأمريكي الخبير، المعروف بهكذا مبادرات قام بها سابقاً في مناطق الحروب والأزمات في مختلف أنحاء العالم، أم أنها زيارة لها خلفيتها ودلالاتها التي قد تتضح في الأيام المقبلة؟

وما يستوقف في الأمر هو أن هذه الزيارة والمقابلات التي كانت مع «الجولاني»، أتت بعد سلسلة من الصور التي نشرت للأخير وهو في زيارات عدة لمخيمات اللاجئين، ولقاءاته مع الناس، وذلك بعد كل التعتميم الذي كان يُفرض عادة على صوره وتاريخه، وحتى اسمه الحقيقي.

أسئلة مشروعة تُطرح، تُضاف إلى أسئلة سابقة. فـ»الجولاني» هو الوحيد الذي ظل على قيادة فصيله حياً مقارنة مع قيادات باقي الفصائل الإسلاموية التي اُقحمت اقحاماً إلى الثورة السورية، وأساءت إليها كثيراً، بل أخرجتها عن مسارها، بتصرفاتها ومشاريعها وتناقضاتها، هذا إلى جانب معاركها البينية، وخطابها المذهبي المقيت الذي لم يطمئن الغالبية الساحقة من السوريين بجميع مكوناتهم من دون أي استثناء. وهو الأمر الذي استفاد منه النظام وحلفاؤه بطبيعة الحال، فقد سوقوا نفسهم بوصفهم من محاربي الإرهاب الكوني الذي يهدد المنطقة والعالم.

ورغم دخول روسيا الحرب إلى جانب نظام بشار خريف عام 2015 ضد السوريين المناهضين لحكمه بذريعة محاربة الإرهاب، فإنها ركزت هجماتها على الفصائل الأخرى التي كانت أكثر اعتدالاً من جبهة النصرة، في حين أن هذه الأخيرة ظلت خارج نطاق أهداف الهجمات المركزة تلك.

كما كان من الملاحظ عدم دخول قوات النظام والقوات الإيرانية والميليشيات التابعة لها إدلب المدينة حيث مقرات جبهة النصرة الأساسية، وذلك أثناء الهجمات التي نفذتها في ريفي إدلب وحلب بتغطية جوية مركزة من جانب الروس. أو أنه بالأحرى لم يسمح لها بدخول المدينة، وذلك نتيجة الموقف الأمريكي الذي ساند الموقف التركي، ومنع سقوط إدلب لتبقى ورقة تفاوضية تُستخدم مستقبلاً لمنع الروس من التحكّم الكامل بالملف السوري، رغم التوافق العام الذي قد تم بينهما في عهد أوباما، وهو التفاهم الذي شاركت فيه إسرائيل على الأغلب.

هل سيعيد الأمريكان النظر في موقفهم من جبهة النصرة/هيئة تحرير الشام بوصفها منظمة إرهابية، وهو الحكم الذي أعلنوا عنه في 2013، ومن ثم صادق عليه مجلس الأمن؛ وسيتذرعون بفتوى سياسية تنص على أن هيئة تحرير الشام ليست جزءا من القاعدة، ولم تعد جبهة النصرة؟ وهي فتوى غير مستبعدة في سياق جملة التخريجات التي اعتمدتها الإدارات الأمريكية في المراحل المختلفة، وذلك بناء على حساباتها وخططها. فقد ميزت في وقت ما بين التنظيمين العسكري والسياسي لحزب الله. وأعلنت الأول إرهابيا، في حين أنها أقرّت بامكانية التعامل مع الثاني.

والأمر ذاته فعلته مع حزب العمال الكردستاني الذي أعلنته إرهابياً، وخصصت مكافآت مالية مغرية لمن يدلي بمعلومات حول ثلاثة من قادته الفعليين وهم جميل بايك، ومراد قره إيلان، ودوران كالكان؛ ولكنها تعاملت من جهة أخرى مع قسد وقائده مظلوم عبدي الذي يأتمر في واقع الحال بأوامر أولئك القادة المطلوبين أمريكياً. هذا رغم ما أُعلن عنه عبدي مؤخراً بخصوص استقلاله التنظيمي عن حزب العمال الكردستاني «الشقيق» وفق ما ذهب إليه، مع تشديده على أنه يتبنى أيديولوجية زعيمه عبدالله أوجلان، وذلك في مقابلته الأخيرة مع جريدة «الشرق الأوسط» السعودية.

أمريكا هي القوة الأعظم حتى الآن في عالمنا المعاصر. وهي قوة مؤثرة أساسية في منطقتنا بغض النظر عما قيل، ويقال، حول تنامي الدور الروسي، وقدرته على منافسة الدور الأمريكي. ولهذا يمكن لأمريكا أن تتعامل مع مختلف الأطراف، وحتى الميليشيات، بناء على شروطها وحساباتها.

وقد سبق لها أن تعاملت مع القاعدة، والفصائل الجهادية الأفغانية في سياق هدفها الاستراتيجي الذي تمثل في إخراج الروس من أفغانستان، وما أدى ذلك إليه لاحقاً من انهيار الاتحاد السوفيتي، وانتهاء الحرب الباردة عام 1991.

هل سنكون أمام عملية احتواء ودمج تدريجي لهيئة تحرير الشام بقيادة «الجولاني» أو غيره، في أي عملية سياسية مستقبلية في سوريا، وذلك وفق التصورات والحسابات الأمريكية التي ربما تتقاطع مع التوجهات التركية، وتكون بمثابة صفقة مقابل قبول تركي بدور لقسد في العملية السياسية المذكورة، بعد أن تعلن صراحة عن فك ارتباطها مع حزب العمال الكردستاني؟ ربما كان تصريح عبدي الأخير يعد خطوة في هذا الاتجاه.

أم أن الموضوع له صلة بالضغط على الروس، والحد من اندفاعهم، سواء في سوريا أم في مناطق أخرى من العالم؛ خاصة في أوكرانيا وأوروبا بصورة عامة؟

وفي هذا السياق، يمكننا أن نتوقف عند ما جاء في حديث الرئيس الأمريكي جو بايدن بخصوص التشدد مع الروس، والقطع مع سياسة سلفه ترامب، الذي عرف بتراخيه المثير للجدل في ميدان التعامل مع الروس، ومع الرئيس الروسي بوتين تحديداً.

ويمكن للمرء في هذا المجال أن يتمعن في واقع مظاهرات المواطنين الروس في موسكو وسان بطرسبرغ وعدد من المدن الروسية، وهي المظاهرات التي تندد بفساد واستبداد السلطة، وذلك في سياق التضامن مع قضية المعارض الروسي نافالني، واستخدام العنف الواضح لتفريق المتظاهرين بعد إقدام القوات الأمنية الروسية على اعتقال الآلاف من النشطاء الروس المعارضين، وتصعيدها مع الاتحاد الأوروبي بذريعة تدخله في الشؤون الروسية الداخلية. كل هذه المقدمات توحي بإمكانية استعادة وصفة أفغانستان في سوريا، وإن بشروط وأهداف مغايرة، وبنسب متفاوتة.

من جهة أخرى، تُطرح أسئلة حول مدى استعداد «الجولاني» في هيئة تحرير الشام للالتزام بالشروط الأمريكية، وذلك من جهة إثبات مسألة فك الارتباط مع القاعدة على أرض الواقع، وعدم الاكتفاء بالتصريحات اللفظية التي قد تتبدل في أي لحظة. هل سيكون ثمن الانفتاح الأمريكي على الهيئة تفكيك المجموعات المتطرفة غير السورية، والتخلص من قادتها وكوادرها بمختلف السبل والأشكال؟

وما يعزز هذا التوجه هو أن «الجولاني» معروف بانتهازيته وقدرته على تغيير مواقفه وشعاراته؛ تماماً مثلما هو عليه الحال بالنسبة لحزب الاتحاد الديمقراطي الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، وواجهاته، مثل مسد وقسد.

أسئلة كثيرة تظل مطروحة، وسيناريوهات عدة محتملة، خاصة في ظل غياب قيادة وطنية موحدة متماسكة للعمل السوري المناهض لنظام الاستبداد والفساد والإفساد المتمثل في النظام الأسدي. فقد تحولت منصات وهيئات المعارضة الرسمية إلى توابع ملحقة بالسياسات الإقليمية لهذه الدولة أو تلك، ولم يعد في مقدورها، كما لم يعد في مقدور النظام نفسه، اتخاذ المواقف الحاسمة التي من شأنها تحديد بنود خارطة الطريق في الحل المنتظر للموضوع السوري.

الظروف التي تمر بها المنطقة عموماً صعبة، خاصة في العراق ولبنان، حيث عادت الاغتيالات السياسية الإرهابية تتصدر واجهة المشهد (اغتيال هشام الهاشمي ولقمان سليم مثالاً)، وذلك في ظل سياسة غض نظر إقليمية ودولية مثيرة للجدل.

أما الظروف التي تخيم على سوريا فهي الأصعب، وذلك نتيجة غياب العامل الذاتي الوطني السوري الذي كان في استطاعته التعامل مع الأوضاع بعقلية إدارة الخسارة، والعمل على التخفيف من تداعياتها وآثارها، قدر الإمكان، وذلك حفاظاً على ما تبقى ليكون أرضية للنهوض والبناء عليه.

وقد أصبحت سوريا في ظل المعطيات الحالية ساحة مفتوحة بأكملها أمام الدول التي لن تراعي في جميع الأحوال سوى أولوياتها وحساباتها. أما السوريون الذين يبحثون عن الخلاص ومستقبل أفضل لأجيالهم المقبلة، فسيُتحفون بعبارات المجاملة، والأسف، والتعاطف التي لا تسمن ولا تغني من جوع، ولا تساوي شيئاً في مواجهة مأساة أكثر من عشرة ملايين سوري بين نازج ومهجر، يعيشون منذ عشر سنوات كارثة غير مسبوقة في عالمنا المعاصر.

القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى