التسويف والانحدار المعرفي تأريخياً
وليد حاج عبدالقادر / دبي
دُعيت أنا و د . رضوان باديني وصديقين كُرديين آخرين للإنضمام الى مجموعة واتس آب ،اسمها ندوة وطن ، ووافقنا بروحٍ وطنية على ذلك ولنتفاجأ بوجود مهند القاطع ، وغياث كنعو وآخرين ، لازالوا رغم كلّ مواقفهم العدائية عطشى لعنصريةٍ لا ترى لها أي مصطلحٍ تعريفي أو مفهوم باستدلال تأريخي – معرفي بقدر ماهو أقرب إلى بناءٍ سياسي رغائبي بصيغةٍ عنصرية بغيضة مبنية على تراكماتٍ ترتقي بوضوحٍ صارخ إلى إلغائية وبشوفينيةٍ ، وهذا لا ينفي وجود قامات أخرى لازلت أعتزّ بصداقاتهم ورقي وعيهم وثقافاتهم، وكتعريفٍ أولي قمت بمشاركتهم برابط إعدادٍ كنا قد أنجزناه، أنا والزميلة الكاتبة ليلى قمر حول المظلومية الكُردية ، فثارت ثائرتهم ، وهنا كتنويهٍ أشير إلى أنّ هذا العرض بالذات هو لتسليط الضوء على آليات الصياغة التاريخية من جهة، ونسق التدوين المنفلت والمعتمد على القناعات القومية كهوىً وانتماءٍ وعلى أرضيتها صيغت / تصاغ أنساق وهمية تحت بند التدوين والتوثيق التأريخي ، وعليه كمدخلٍ من المفيد التذكير ببعض النقاط نقلاً عن الدكتور عبدالعزيز فيصل حاجية المدرّس في كلية الآداب – قسم التاريخ بجامعة الكويت والمنشورة في جريدة الرأي الكويتية ، بعنوان تدوين التاريخ عبر العصور – عدد 14 ديسمبر 2008 حيث رأى في التاريخ سجلاً ( .. تدوّن فيه الأحداث على مرّ العصور ) ، وعدّد الصفات المفترض توفّرها في مدوّن التاريخ وأهمها : التحلّي بصفات وأخلاقيات المؤرّخ ؟ . وان يكون محبّاً للدراسة والاطّلاع والقدرة في سرد وتحليل الأحداث وفق المنهج التاريخي بالحجة والبرهان ، وأن يلتزم بالحياد والحقيقة ، وعليه الابتعاد عن حبّ الشهرة . وقابلَ الدكتور تلك الصفات بصفات الكتبة المزعومين محدّداً أهم نقاط ضعفهم بالتالية :
1. الافتقار إلى الوعي التاريخي ، أو المعرفة الواضحة التي تحدّد معناها وأبعادها
2. الإصابة بذات العوامل التي تؤثِّر سلباً في تدوين التاريخ ، الذاتية منها أو الإقليمية أو الطبقية أو السياسية التي تنسف المصداقية .
3. وكنتيجةٍ للنقطتين أعلاه التي ستؤدّي حتماً بالباحث المزعوم إلى الاعتماد على مصدرٍ واحد من المصادر التاريخية، واعتباره كحقيقة مطلقة .
4. أكثر الأخطاء الشائعة في قراءة التاريخ هو الوثوق بالمنُقول عن المتكلّمين وهذا المصدر ـ بالدرجة الأولى ـ ترجع الكثير من الرؤى التاريخية الخاطئة أو القاصرة والتي مثَّلت اتجاهاتٍ عريضة في قراءة ونقد التاريخ ، وأسّست لطوباويات تاريخية لا أساس لها في الواقع.
إنّ الإستدلال التأريخي يُبنى على تكامل عدة معطيات فوق وداخل الأرض ، والمنهجية العلمية تفرض على أيٍّ كان بما يشاء أو يستطيع لاستكشاف الوقائع لا تطويبها أو سلبها ، وبقدر الالتزام بالمهنية والوسائل التطبيقية العملية وباحتراف ، أما وضع القاعدة الشخصانية وبتطويبٍ قداسوي ، أو بشكلٍ أدق تجيير وتجزيء الأسس على قاعدة القصّ واللصق ، ومن ثم البناء عليها لتعزيز وتبرير قناعات مسبقة، فهي هنا ستكشف زيفها بشكلٍ أسرع.
وهنا وفي العودة إلى الإعداد – المظلومية الكُردية – والذي أثار حفيظة غالبيتهم ، وتهجّمهم الفظيع ، بالرغم من تأكيدنا بأنّ الغاية منها في الأساس هي إظهار انعكاس هكذا مواقف ، وكتسليطٍ للضوء أيضاً على المظلومية المستمرة ، وتبرير بعضهم لمواقف الأنظمة المتعاقبة واعتبارها – لتلك المواقف – صحيحة وكواجبٍ وطني يحتم عليهم الوقوف معها .. نعم ! من الممكن أن يستغرب بعضهم في جدلنا حول ما يرونها من المسلّمات ، متناسين بأنهم وبجرّة قلمٍ يشطبون تاريخ واثر مجموعاتٍ بشرية ، فهم يستطيعون تطويب خاصيتهم ولكن ؟ وهنا السؤال الأهم من منظورنا كُردياً : هل أُتيح للكُرد أن يعبّروا عن شخصيتهم ؟ .. دراسة ونشر تاريخهم ؟ .. ألم تُحاصَر لغتهم ؟ . فهل كلّ هذه العنصرية التي مورست حينها كانت غايتها تجميل الوضع السوري ؟ ومع هذا سنعود إلى ذات السياقية التاريخية ، والتي على أرضيتها يبني كثيرون منهم تطورهم وتأشكلهم كقومية – أمة ؟ وكمثالٍ : هل بمقدور أيٍّ كان أن يحدّد مكتشفات تل حلف وكري موزان وكيشكة وكشكشوك وتل بيدر وتابعيتها كانتماءٍ قومي ؟ .. سيردّ بعضهم : وما لنا وكلّ هذه التلال ؟ إنّ النفي الوجودي هو استئصال، والسؤال : هل تاريخ المنتصرين هو الأصدق ؟ .. وهل كان الشريف حسين متواطئاً مع الكُرد في مراسلاته مع مكماهون ؟ .. نعم ! إنّ التاريخ سكين بحدّين وبالتالي : ماذا يريد دعاة هكذا تصوراتٍ ؟ أفلا تودّي مخرجاتها إلى تبرير كلّ ممارسات النظم في مواجهة الكُرد واعتبارهم إما جيباً عميلاً أو إسرائيل الثانية ؟ ..
وسأضيف هنا : متى توفّرت أرضية الدراسات التاريخية وفق منهجيةٍ علمية وغير مؤدلجة ،وتمّ اعتماد مفردات هكذا دراساتٍ كتحديدٍ انتمائي يمكن الاستناد عليها ؟ . ومن جديدٍ سأفترض شخصياً ذات التساؤل : لماذا هذا التعنّت في اعتبار المظلومية تلك كواحدةٍ من اهم إفرازات تلك الطروحات من وجهة نظري ، ومن ثم مناقشتها ؟ اوليس من المفترض أن نصل إلى نتيجةٍ ما لحواراتنا هذه ؟ . هذا الأمر الذي سيؤدّي إلى طرح استفسار تعريفي نظري حول ماهية الجدالات وأهدافها إن كانت الغاية منها هو التأسيس لنوع ونمط تفكيرٍ لرؤيةٍ جديدة ؟ أم أنّ الهدف هو التوكيد على صحة كلّ الإجراءات التي طبّقت فيراها بعضهم بأنها لم ترتقِ أبداً في استهدافها للوجود الاستيطاني ؟! الكُردي ؟ . هذا المنطق الذي سيقودنا إلى أنماط الدولة – الدول المتشكّلة بحدّ ذاتها دينية كانت أو قومية ! ومن ثم التعرج إلى نمط الدولة الأموية والتي تحت سقف ذات المنحى الذي تقصّدته التنظيرات حينها والعقائديات الآن ومن ثم ظهور مصطلح العرب والموالين وهيمنة ذات الفكر والى الآن في ذهنية الكثيرين.
إنّ ما يعيب على ذهنياتٍ كثيرة في تتبعها التأريخي للمجموعات البشرية ، ومن ثم تطويب الكلام المنقول والنظر إليها بقداسة مضاعفة مقابل التسخيف بغوغل ويوكيبيديا وغيرها من مسارات المعرفة ، فنرى مثلاً وبخاصية الكُرد في مصادر الرحّالة ، لو تمّت مراجعتها من دون اجتزاء أو انتقائية وفي مصادر عديدة وكمثالٍ معجم البلدان لياقوت الحموي وتتبعنا خط سير المناطق وأسماء المدن والتجمعات لمرّت معنا أسماء كثيرة لاتزال حواضرها شامخة حتى الآن . إن كثيراً من القراءات والمراجعات التي نراها لبعضهم استندت في الأساس على سيرٍ لا تتجاوز مناحي الحكايا كصيغٍ شعبية رتّبت من وحي الخيال ، وغالبيتها تستنسخ من قبل شخوص وكحكمٍ مسبق مسنود ايديولوجيا وذي استهدافٍ واضح ، ولو قبلت – شخصياً – استنساخها كُردياً على ذات المبدأ لطوبت أجزاء كبيرة من العالم ومطّطت بكُردستان لتشمل البحار والمحيطات وبالمفهوم التاريخي وتسلسل حضارات البشرية وبلا انتقائية لآراء جبرية مجيرة ! ، وهنا وكاختزال تاريخي أمام النفي الجبري لشلليةٍ قوموية لاتزال تتبع المنطق العفلقي بكلّ تجلياته فتنفي – كُردياً – كلّ السرياليات التي حكت عنها ووثّقتها وثائق تل العمارنة وماري والأهم المحسوس المادي وسجلات ملوك الممالك والإمبراطوريات المتعاقبة وباختصارٍ لو وقفنا قليلاً أمام تاريخ الكاشيين وملوك كاردونياش وإلى تلك ( العشيرة الصغيرة حسب تعبير واحد يعتبر ذاته من تقاة التأريخ ) من الهورو ميتان والتي ما ارتقت إلى مصاف القبيلة ؟! .. وأمام كلّ هذه التسويفات ، هناك مَن ينتقد ردة فعلنا من هذه الخلطة العجيبة ونمط التفكير الذي يبشرون بها ، وعليه فمن حقنا أن نحمل كلّ مَن يتبنّاها ويعيدنا ككُرد إلى تلك السوية الرسمية نكراناً كما النظم وبذات النمط الانتقائي والاجتزاز المعرفي وكأني بهم فقط مَن يملك الحق في توصيف وترتيب كلّ ما يلزمهم لفرض ما يتمنّوه .. والسؤال الهام هنا ؟ الى أين تريد / ون ( وهنا لا أعمّم ) أن تصلوا ؟ فلو عدنا إلى بداية التاريخ وإلى تعاقب الممالك وتداخل التشكّلات المجتمعية وبالتالي وهذا هو الأهم ، الأنماط المؤسّسة لقيم التفكير والوعي المنتج للثقافات كما جذورها ، فسأحيلكم جميعاً من جديد ولو متاخراً بالدعوة المفترضة وقتها إلى إطلاق سراح تماثيل رأسية كانت لأبناء الأثير الجزريين والتي كان يفترض أن يتمّ تكريمهم بتحديد ساحة في مدينة الحسكة لهم واسألوا محمد الإدريس عن عدد السنين التي بقيت فيها التماثيل معتقلة في غرفة بالمركز الثقافي العربي وأركّز على العربي بالمفهوم الذي كان سائداً.
كان يمكن وعلى قاعدة التأسيس لغالبية البحوث !! بألا تنسف بداية في الاستقراء الخرائطي البشري وكخزانٍ محوط ومزنّر بسور انتمائي خاص فتبقي ( سومرييهم ) وكأنهم نزلوا من فضاءات لا مرئية فتنسف ما توصّلت إليه لجان مشهورة ومستندة على أدق المعطيات والإمكانات العصرية فتنفى عنهم صفة التنقل أو منبع الهجرة ، وتنطلق من طروحات تروى كبديهيات انتمائية يفترض بنا جميعاً ألا ندقّق أو نشكّك فيها تطويباً . هذا الأمر الذي يثير تساؤلاً ويذكّرني عن وسائل النقل التي استخدموها ، وهل كانت برية أو في عربات قطارات أو طائرات ، فيسهو غالبية المتأرّخين ، بأنهم بالفعل يستنطقون رغباتهم كرؤىً من خلال القفز المتمرّس على حقيقة نمو وتطور المجتمعات ومعها ظهور آليات النمو المجتمعية ومن ثم الأسر والقبائل ومن جديد فولذتها بجبرياتهم النافية لأيّ مقدم سوى ذي الجذر العربي . وكاستخلاصٍ أحبّذ التركيز على أمور متشابكة : هل سنعود إلى تدريس وتسويق ذات هذا التاريخ ؟ .. وهل طريق دولة المواطنة تستوجب هذا الصراع وإعادة جدولة الشطب الانتمائي.
هل اللغة العربية وجدت ليحصرها مؤدلجون عقديون على مذهبيات تاريخية محدّدة وبحكم التاويل ؟.
وفي العودة إلى بنية التأسيس للمحاور التي يتمّ التركيز عليها عادةً من قبل بعض القومويين أتباع خط السير المطوبة عندهم ، وهنا أعني بشكلٍ خاص بداية تشكّل ممالك المدن والتي تعمّم بصيغته الجبرية حتى في التوثيق التأريخي وآليات تشكّل ومصدر رفد فيما يسمّونه هم بالهجرات التاريخية.
المقال من جريدة يكيتي عدد 289