السوريون والانتخابات الأميركية!
أكرم البني
يصح القول إن السواد الأعظم من السوريين لا يكترثون بالانتخابات الأميركية المرتقبة ولا يهتمون بما تثيره من مهاترات وتوقعات، بل لا فارق عندهم بين دونالد ترمب وجو بايدن، إما لأن بعضهم لا يزالون تحت تأثير تعبئة آيديولوجية تسخر من أي خصومة أو خلاف في البيت الأميركي وتعتبره مجرد لعبة أو مسرحية لتبادل الأدوار، وإما لأن بعضهم الآخر عانوا الأمرين من استرخاء البيت البيض المخزي تجاه محنتهم الإنسانية، ومن استهتاره، في ظل الديمقراطيين والجمهوريين على حد سواء، بأرواح المدنيين السوريين وبما حل بهم من فظائع ودمار وخراب، وإما لأن غالبيتهم غارقون في لجة مأساتهم ومنشغلون بلملمة جراحهم وتسكين آلامهم وتدبير لقمة عيشهم، سواء أكانوا مهجرين خارج الحدود أم نازحين داخل الوطن أم ممن آثروا البقاء في بيوتهم ويحاولون التكيف مع ظروف أمنية واقتصادية قاسية.
واستدراكاً، ربما لا يمكن أن ترى إلا عند السوريين شيوع تلك الابتسامات الحزينة المفعمة بمرارة عميقة، وهي ترتسم على الوجوه حين يعترضها السؤال عن الانتخابات الأميركية، فأي قيمة لهذا الحدث عند من يكويهم البحث عن أبسط مقومات الحياة؟ أو عند من يقفون يومياً ولساعات، في طوابير طويلة كي يتمكنوا من حيازة بضعة أرغفة من الخبز تقيهم وعائلاتهم من الجوع، أو للحصول على بضعة ليترات من البنزين أو مازوت التدفئة؟ وأي معنى لهذه الانتخابات عند لاجئين أجبروا على العيش في معازل ومخيمات لا تليق بالبشر، وأرغمتهم وطأة الحاجة على التسول أو قبول أعمال وضيعة ومذلة لتأمين قوت يومهم، معرضين أنفسهم لأسوأ أنواع الاستغلال الجسدي وخاصة الأطفال والفتيات؟ أو عند الملايين من أهالي الضحايا ممن أفقدتهم الحرب أحبتهم، وعند مئات الألوف من الجرحى والمشوهين، ومثلهم ممن لا يكلون أو يملون من طرق أي باب لمعرفة مصير أبنائهم وإخوتهم المغيبين في المعتقلات؟!
في المقابل، هو أمر مفهوم أن تكون الأطراف السورية المنخرطة في الصراع الدموي الدائر، هي الأكثر اهتماماً بالعملية الانتخابية الأميركية، وأن يكون كل طرف منها هو الأكثر تحفزاً لترقب نتائجها، متحسباً من تأثيرها على فرص حضوره في المشهد أو على ما حققه من فتات المكاسب والمغانم.
والبداية، من السياسة السلطوية التي لم تخف رغبتها الصريحة في أن يهزم ترمب، صاحب قانون قيصر وتشديد العقوبات الاقتصادية، وحامل لواء محاربة إيران ونفوذها في المنطقة، خشية أن يشكل بقاؤه في البيت الأبيض، ليس فقط انتصاراً صريحاً لنهجه ومواقفه، وإنما أيضاً اعترافاً وتفويضاً من أهل بيته بجدوى استمرار سياسته وبضرورة تشديدها في الإقليم، وهنا، لا غرابة في أن ترى بعض منظّري محور الممانعة وهم يفركون أياديهم فرحاً بعد الإشارات الأولية لاستطلاعات الرأي التي ترجح خسارة ترمب وفوز بايدن، تحدوهم آمال وغالباً أوهام، بأن يحمل الأخير فرصة لتقدم سياسات أميركية من نوع جديد تحمل تعديلاً في سبل التعاطي مع إيران وحلفائها، ما يمنحهم فرصة لالتقاط الأنفاس وربما هامشاً للتفاهمات والمساومات، ويوفر مناخاً يريح النظام السوري ويخفف حدة الحصار والضغوط عليه!
في المقلب الآخر، إذا كان من البديهي ألا يقيم المتطرفون الإسلاميون السوريون وزناً للانتخابات الأميركية، وأن تتجه دعايتهم في مناطق سيطرتهم للاستهزاء بها ورفضها، جملة وتفصيلاً، ما داموا يجمعون على محاربة قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، وعلى تصوير الولايات المتحدة بؤرة للشرور ورأساً للكفر والإلحاد، فإن هذا الجذر الآيديولوجي لم يكن كافياً اليوم للتحكم بخياراتهم ومواقفهم، بل كان تأثيره أضعف مما أملاه عليهم راعيهم وداعمهم، ما يفسر اندفاع بعض أمرائهم وقادتهم لملاقاة تحفظ حكومة أنقرة على مرشح الحزب الديمقراطي الذي دعا للتشدد في التعامل مع دور تركيا في المنطقة، وتالياً ميلهم مع ميلها للرئيس ترمب صاحب فكرة سحب بقايا القوات الأميركية من سوريا، والذي سمح لها ولهم بالتمدد في شمالها، خاصة أنهم لم يترددوا أو يتأخروا في زج الفتية والشبان السوريين المغرر بهم، كوقود لتسعير حروب إردوغان التوسعية، ليس فقط في سوريا، وإنما أيضاً في ليبيا وأذربيجان، والحبل على الجرار.
وبين هذا وذاك، تتباين مواقف النخبة السورية المعارضة من العملية الانتخابية الأميركية، جراء تباين جذورها الآيديولوجية واختلاف اصطفافاتها، فأكثريتها تتمنى نجاح ترمب وهزيمة بايدن، بدافع من استمرار الموقف الأميركي الحاد من النظام وأيضاً من إيران ونفوذها في الإقليم، معولة على ذلك بإفشال رهان حكام دمشق على أي تغيير في واشنطن يمكنه تخفيف الضغوط التي يتعرضون لها ويساعدهم على الإفلات من العقاب ومستلزمات الحل السياسي، لكن ثمة من يحرجه الدفاع عن ذلك الخيار، مرة، بسبب الموقف الروسي الذي يميل أيضاً لبقاء ترمب في الحكم، حتى لو تم تمرير ذلك بالتأكيد على أولوية الخلاص من إيران بصفتها الأكثر شراً وسوءاً، ومرة ثانية، عند بعض المنتمين لجماعة «الإخوان المسلمين» ومن يدور في فلكها، والذين لم ينسوا الباع الطويلة للحزب الديمقراطي في دعم الإسلام السياسي ودوره في المجتمعات العربية، ومرة ثالثة، لتعارض بعض مواقف وممارسات دونالد ترمب مع قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، سواء عند إعلان تمنعه عن تسليم السلطة في حال خسر الانتخابات، أو لدوره الشعبوي في التمييز بين الأميركيين وتسعير العداء للاجئين وإثارة النعرات الدينية والعنصرية.
أخيراً، وأياً تكن نتائج الانتخابات الأميركية العتيدة، فإنها لن توقف أو تجمد العقوبات الاقتصادية المفروضة على النظام السوري، ما دامت قد أقرت من قبل الكونغرس بمجلسيه، وما دام الرئيس الجديد ملزماً، مهما تكن نياته وتوجهاته، بتنفيذها، كما أنها لن تقدم في المحصلة أي جديد للشعب السوري المنكوب، في ظل استمرار الأسباب التي دفعت بالولايات المتحدة نحو الانكفاء والانشغال بمشكلاتها الداخلية، وآخرها جائحة كورونا، أو باهتمامات عالمية لا قيمة كبيرة للوضع السوري فيها، لكن هذا الحدث كشف مدى هشاشة أطراف الصراع السوري وشدة ارتهانهم للمؤثرات الإقليمية والعالمية، وأثار من جديد أسئلة البحث عن خيارات يمكنها كسر حلقة الاستنقاع والتفسخ، وفتح نافذة أمل لخلاص السوريين من دوام هذا الوجع والتفكك والخراب.
الشرق الأوسط