الضفاف الجافة
( قصة )
بهجت شيخو
يتناثر رذاذ الصّباح ؛ ليملأ تجاعيد وجهه الكئيب عبر نافذته التي اهترأت مع مرور الزمن, إذ ينتظر شروق الشَّـمس بلهفة, و خاصَّةً أنَّ السَّكون قد طغى على المكان، و أوقف حتـَّى نقيق الضَّفادع من برك نهر الزَّركان المـُتجفـِّف منذ سنوات, كما أوقف الوقت المـُتأخـِّر أنين أمِّ سليمان, التي انتابها فجأةً شدة الوجع منذ بداية منتصف الليل و حتى قبل لحظات.
أمّا أبو سليمان الذي بقي مستيقظاً- و بالقرب منه ابنته روكن ذات الخمس سنوات التي أنهكها النـَّوم وغلبها النـُّعاس – ما زال ينفث بدخانه اللف ، و يشدُّ عليها بقوةٍ بأصابعه المتعبة و المُصفرَّة دوماً كتلك الأوراق المُتناثرة في نهاية فصل الخريف ملوناً بصباغ من نيكوتين التبغ المزمن و متفحّماً بالسّواد نتيجة تصليح محرك البتر الزَّراعي المـُتكرر و بشكلٍ يومي أحياناً, إلى جانب كاسات الشاي المتبقّية في إبريقه الذي أفقده السَّهر كامل حرارته.
يرتشف تلك القطرات من كأس الشَّاي بكلِّ هدوء، فقد يساعده ذلك على ترطيب شفاهه التي عذّبها شقاء الزَّمن الضَّائع من عمره, و آهات أمِّ سليمان المفاجئة منتظراً حتى موعد إطلاق زمور ميكروباص( أبو برزان) القوي ، و الذي ينطلق عادةً مع خيوط الصَّباح الأولى من بلدة (أبو راسين) ليتوجّه إلى مدينة الحسكة ، حتى يتسنّى له إسعاف زوجته إلى عيادة أحد الأطباء المشهورين في المدينة.
ردّد متمتماً: يجب أن يكونوا مشهورين و قديرين أيضاَ .. لأنَّ أمَّ سليمان هي التي عاشت معي وفي أحلك ظروفي و أصعبها, و تحمـَّلت الليالي الخاوية و المظلمة و أنجبت لي الصبيان و البنات، و حتى أغلب ولاداتها كانت بدون استشارات طبيـَّة أو في المشافي و لم يتعامل معها حتى كبعض الأخريات من الأسر الميسورة, وكانت المرحومة أمِّي تكتفي بإعداد طبق البلول لها ( pelûl طعام كُردي من طحين و سكر مطبوخ يقدّم لحديثات الولادة ) و أخذ ابو سليمان يسترجع حلقات سنواته الشّاقة ،كأي فيلمٍ سينمائي و كيف لهذه السنوات المتراكمة بشتى ألوانها العجاف فهي لم تهب لزوجته سوى المزيد من التعاسة و العوز اليومي! .
فجأةً سمع صوت الزمور من بعيدٍ ، فاقترب من فراش زوجته و ناداها بصوتٌ متألم و حنون ،و ربما قد يكون هذه أوّل مرة تصدر منه مثل هذه الألفاظ الرقيقة, بهذا الشكل، ففتحت عينيها و فيهما كلُّ الأسى, ومن شدة أوجاعها نهضت متثاقلة و ترجّت بصوتٍ فيه حزن و ألم و قالت: أبو سليمان أيقظ الأولاد سأودِّعهم ، و لا تنسَ الصغيرة روكن ، و في لحظةٍ غلبت عليها السرعة ،وبعيون تقطّرت ما تبقّى لها من الدمع، ودَّعت فلذات كبدها, و قبـَّلت روكن قبلةً واحدة دافئة, و رافقت زوجها بهدوء باتجاه الطريق العام ، و ماهي إلا دقائق حتى وصل الميكروباص ، صعدت بصعوبة بالغة وتهيَّأت للجلوس, و ما أن انطلقت الحافلة حتى ودَّعت أمُّ سليمان من خلال نافذة الميكرو أوجاع سنين تلك القرية ، و امتلأت عيناها بتلك الدَّموع السَّخية ؛ لأنـَّها خلـَّفت وراءها تلك الأوجاع وفلذات كبدها, و لم تستطع الصُراخ لتندب حظها الملتحف بسواد الليالي و أعاصيرها .
و بعد مسيرةٍ دامت أكثر من ساعة كانا في عيادة الطبيب, و بعد الكشف على حالتها مرات ، أحالها الطبيب إلى المشفى الوطني نتيجة تدهور حالتها الصَّحية، و لم تمضِ أمُّ سليمان في المشفى إلا ثمانية و أربعين ساعة, إذ سلّمت روحها إلى باريها ، و دفنت بمقبرة القرية بحضورٍ متواضع من المشيّعين.
و لم يمضِ ِ على وفاتها ثمانية و أربعون يوماً حتى تزوج أبو سليمان من امرأة أخرى ، وأمضت روكن الصَّغيرة لياليها تسهر لوحدها؛ لأنها فقدت حضن الأمِّ و حضن الأب في آن واحد.
تل تمر 1983.
المقال منشور في جريدة يكيتي العدد “315“