العقلية البعثية سجن فكري لا يزال يطارد السوريين
ماهر حسن
تُعتبر العقلية البعثية جزءاً لا يتجزّأ من تاريخ سوريا المعاصر. فمنذ صعود حزب البعث العربي الاشتراكي إلى سدة الحكم في عام 1963، مروراً بسيطرة حافظ الأسد على السلطة في عام 1970، واستمراراً تحت حكم ابنه بشار الأسد بعد عام 2000، شكّلت هذه العقلية البيئة الفكرية والسياسية التي حكمت البلاد لعدة عقود. كانت البعثية، بنظامها الحاكم، تمتلك سمة مميزة؛ إنها عقلية سلطوية قائمة على تقديس الزعيم، نفي الآخر، تشويه الحقائق التاريخية، وتقديم رؤية واحدة للحقيقة لا تقبل النقاش أو المعارضة.
عندما نتحدّث عن “العقلية البعثية”، فإننا لا نتطرّق فقط إلى الأيديولوجيا السياسية التي كان يروّج لها الحزب، بل نتحدّث عن الطريقة التي سيطرت بها هذه الأيديولوجيا على الثقافة السياسية والاجتماعية في سوريا. كانت هذه العقلية تستند إلى فرضية أنّ الدولة، وأنّ السلطة، وأنّ الزعيم، هم محور الوجود، وأنّ أيّ مساسٍ بذلك، حتى لو كان بحسن نية، هو بمثابة خيانة.
واحدة من أبرز سمات العقلية البعثية هي تقديس الزعيم، حيث تمّ بناء صورةٍ مثالية عن القائد باعتباره “رمز الأمة” و”أب الشعب”. كان النظام البعثي يروّج دائماً لفكرة أنّ القائد هو منقذ الأمة والموجه لها، وأنه لا يمكن أن يكون هناك أي زعيمٍ آخر يعادل أو يتفوّق عليه في قدراته وحكمته. تلك الصورة التي كان يُسوّق لها كانت تتناقض مع الواقع الذي كان يعانيه الشعب السوري، لكنها كانت تُفرَض بالقوة عبر الإعلام، والتعليم، وفي كلّ جوانب الحياة اليومية. من المدارس إلى الشوارع، كان الجميع مضطراً إلى احترام صورة القائد، بل وتقديسها.
هذه العقلية، التي تمّ تعميمها عبر وسائل الإعلام الرسمية، لم تقتصر على تبجيل القائد فقط، بل شملت أيضاً فكرة أنّ كلّ مَن يعارض النظام هو عدو للوطن.
كان يتمّ تصوير المعارضين على أنهم “خونة” أو “أعداء وعملاء ”، وبالتالي فإنّ أيّ فكرٍ خارج إطار النظام البعثي كان يُعتبر تهديدٌ.
وكان هذا الفكر يعزّز من فكرة العنف الفكري، ويجعل من أيّ محاولةٍ للاختلاف أو النقد نوعاً من الخيانة.
لقد عمد النظام البعثي، طوال فترة حكمه، إلى تحريف الحقائق وتشويه التاريخ لصالحه. في المناهج الدراسية، كان يتمّ تصوير الأحداث التاريخية بطريقةٍ تتماشى مع الرواية التي يريد النظام نشرها. كانت هذه الحقائق تُشوّه وتُحرّف من أجل تعزيز صورة النظام في أعين الأجيال الجديدة، حيث كان يُسمح فقط بنقل الروايات التي تمجّد النظام، وتُقلّل من شأن أيّ معارضةٍ له.
على سبيل المثال، كانت تُقدّم الحرب مع إسرائيل على أنها “مؤامرة كونية” ضد سوريا، والجيش السوري يُصوّر على أنه جيش لا يُقهر، حتى عندما كانت هزائمه واضحة في الواقع. كما تمّ إخفاء الكثير من الجرائم والانتهاكات التي ارتكبتها السلطات السورية ضد الشعب، مثل حرمان الكُرد منّ أبسط حقوقه، ومثل مجزرة حماة عام 1982، حيث كانت تُعرض الأحداث بشكلٍ انتقائي، لا يترك أي مجالٍ للشك في صدق “الخطاب الوطني”.
ولم يتوقّف الأمر عند تحريف التاريخ الرسمي، بل امتدّ إلى فرض رواية واحدة حول الأحداث الراهنة، خاصةً أثناء اندلاع الثورة السورية في 2011، حيث كانت وسائل الإعلام الحكومية تروّج لفكرة أنّ سوريا تتعرّض لمؤامرة خارجية، وأنّ المظاهرات الشعبية هي مجرّد “تمرّدات إرهابية” لا تعبّر عن مطالب الشعب السوري.
من أبرز مظاهر العقلية البعثية أيضاً، هي ثقافة القمع والخوف التي كانت تُفرض على الشعب السوري. كانت الدولة تستخدم الأجهزة الأمنية لتخويف الناس، ومنعهم من التعبير عن أيّ آراء مخالفة. أيّ انتقادٍ للنظام كان يُقابل بعقوبات قاسية، سواءً كانت اعتقالات تعسفية أو عمليات تعذيب في السجون أو حتى تصفيات جسدية. لم يكن هناك مجال لأيّ نوعٍ من المعارضة السياسية، وكانت فكرة الديمقراطية والحرية تُعتبر تهديداً مباشراً للسلطة البعثية.
لقد زرع النظام فكرة أنّ المعارضة تعني الخيانة، وكان يتمّ تصوير أيّ شخصٍ يعارض النظام على أنه “عدو للشعب”. هذا التصوّر خلقَ بيئةً من الخوف، حيث تراجعَ الناس عن التعبير عن آرائهم خوفاً من العواقب. حتى في الاجتماعات الخاصة بين الأفراد، كان الجميع يحسب حساباً للكلام الذي يُقال، خوفًا من أن يصل إلى الأجهزة الأمنية.
سقوط النظام البعثي في شكله الرسمي لم يكن بمثابة نهايةٍ للفكر البعثي في سوريا. في الواقع، أثبتت الأحداث التي تلت سقوط الأسد الابن أنّ الفكر البعثي لا يزال يطارد الشعب السوري والمجتمع بشكلٍ عام. فقد ظلّت العديد من القوى السياسية التي نشأت في ظل الثورة تحمل بعض السمات نفسها التي كانت سائدة في عهد النظام البعثي، سواءً من خلال تقديس الزعيم، أو الترويج لخطابٍ سلطوي لا يسمح بالتعددية الفكرية.
إحدى المشاكل الكبرى التي يعاني منها المجتمع السوري اليوم هي استمرار بعض الأفراد في تبنّي نفس العقلية البعثية رغم التغيرات السياسية.
بعض السوريين، الذين تربّوا في ظلّ هذا النظام، لا يزالون يؤمنون بأنّ سوريا عربية، ولا يوجد غير مكون عربي على أرض سوريا. وهذا يبرز حقيقة أنّ العقلية البعثية لا تزال متغلغلة في الأذهان، ولا يسهل التخلّص منها بسرعة.
بعد انهيار النظام البعثي، كانت هناك آمال في أن يرافق هذا التغيير تحرر فكري في المجتمع السوري. إلا أنّ الواقع كان أكثر تعقيداً. فكثير من السوريين، الذين عاشوا طوال حياتهم في ظلّ هذه العقلية السلطوية، لا يزالون يحتفظون بتلك الأفكار المترسخة في عقولهم. حتى بعض الذين شاركوا في الثورة أو الذين دعموا المعارضة، قد تجدهم أحياناً يتبنّون خطاباً مشابهاً في تبرير السلطة المطلقة أو في التعامل مع مَن يخالفهم الرأي.
من التحديات التي تواجه سوريا في مرحلة ما بعد الأسد هي التخلص من هذه العقلية المتجذرة التي لا تزال ترى في السلطة طريقاً للحل والنجاح. فالمجتمع الذي نشأ في ظلّ عقلية القمع والتقديس لا يمكن أن يتغيّر بين عشيةٍ وضحاها. ما يحتاجه السوريون اليوم هو عملية شاملة من التوعية والتثقيف التي تساعدهم على التفكير بحرية، وتقبل الآخر، وتشجيع الحوار والنقد البنّاء التحرر من العقلية البعثية يتطلّب عملية طويلة ومعقدة، حيث لا يمكن مجرد إسقاط النظام أن يؤدّي إلى القضاء على الفكر البعثي. في الواقع، فإنّ التخلص من هذا الفكر يتطلّب تغييراً جذرياً في طريقة تفكير الأفراد والمجتمع ككل.
أول خطوة نحو التحرر من هذه العقلية هي بناء ثقافة سياسية جديدة تقوم على احترام التعددية الفكرية، وتقبل الآخر، وتشجيع الحوار المفتوح. يجب أن يعترف الشعب السوري بحقه في التعبير عن آرائه المختلفة دون خوفٍ من الملاحقة أو القمع. كما يجب أن يتمّ تعليم الأجيال الجديدة على التفكير النقدي، وإزالة أيّ رواياتٍ تاريخية مغلوطة تمّ ترويجها على مدى عقود.
إنّ “سوريا الجديدة” التي نحلم بها يجب أن تقوم على مبادئ الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والعدالة الاجتماعية،واحترام التنوع. هذا لن يحدث إلا إذا تحرّرنا من عقلية النظام البعثي، التي حاولت أن تفرض هيمنة “الحقيقة الواحدة” وتدجين العقول.
الخروج من دائرة العقلية البعثية ليس مهمة سهلة، لكنه أمر بالغ الأهمية لبناء سوريا جديدة تقوم على الحرية والعدالة. وإنّ تحرر المجتمع السوري من الفكر البعثي يتطلّب إعادة بناء الفكر والعقلية الجماعية، وهذا يتطلّب جهداً جماعياً ومساهمة من جميع الأطياف السورية. فقط عندما يتحرّر الشعب من قيود هذه العقلية السلطوية، سيكون بإمكانه أن يبني مجتمعاً ديمقراطياً حقيقياً، يستحقّ أن يكون على قدر تطلعات أبنائه.
فآثار هذه العقلية حاضرة في أذهان الكثير من السوريين. ورغم التغيرات السياسية التي شهدتها البلاد بعد عام 2011، فإنّ التحرر من هذا السجن الفكري ليس أمراً سهلاً أو سريعاً. العقلية البعثية تركت بصمة عميقة في المجتمع، وأصبحت جزءاً من الذاكرة الجمعية التي شكّلت نظرة الناس للحكم والسلطة، بل وحتى مفهوم الحرية والديمقراطية. كثير من السوريين، رغم مرونة بعضهم في تبني الأفكار الجديدة، يجدون أنفسهم عاجزين عن التحرر التام من تأثير هذه العقلية، التي جعلتهم يعيشون في دائرة مغلقة من الخوف، والتبعية، والقبول بما يمليه النظام.
التحرر من هذا السجن الفكري يتطلّب جهداً جماعياً طويل الأمد، ولا يمكن أن يحدث بين عشيةٍ وضحاها. البداية تكون بالتوعية وإعادة النظر في التاريخ من منظورٍ موضوعي، بعيداً عن الروايات التي فرضها النظام البعثي. يجب أن يبدأ الناس في تقبل الاختلافات الفكرية، واحترام حق الآخر في التعبير عن رأيه، وبناء بيئةٍ تشجّع على النقاش الحرّ والبناء. يتطلّب ذلك أيضاً إنشاء مؤسسات تعليمية ووسائل إعلامية تعمل على تعزيز الفكر النقدي، ورفض الدعاية السياسية التي كان النظام يعتمد عليها لتشكيل العقول.
إنّ التحرر من العقلية البعثية ليس مجرد عملية تغيير في الأفكار فقط، بل هو عملية تغيير ثقافية عميقة في المجتمع، تتطلّب بناء قنوات تواصل حرة، وتنمية شعور بالمسؤولية الفردية والجماعية. هذا يتطلّب تضافر الجهود من مختلف الجهات السياسية والثقافية والاجتماعية لتغيير المفاهيم التي تمّ ترسيخها عبر العقود الماضية، والعمل على إعادة بناء عقليةٍ جديدة قائمة على التعددية والحرية واحترام حقوق الإنسان.
وبذلك، يمكن القول إنّ التحرر من هذا السجن الفكري يتطلّب معركةً طويلة الأمد على أكثر من جبهة: جبهة الفكر، جبهة التربية والتعليم، وجبهة الإعلام. وهذا العمل الجماعي هو الأساس لبناء سوريا جديدة، سوريا قادرة على تخطي ماضيها القمعي، وإعادة تشكيل مستقبلها على أسسٍ من الحرية والعدالة والكرامة.
المقال منشور في جريدة يكيتي العدد “327“