العلاقة التركية – الكردية التي تتوسّطها واشنطن
هوشنك أوسي
حاولت تركيا إيجاد موطئ قدم لها في العراق، خصوصاً في إقليم كردستان، عبر طرح مشروع إقامة منطقة أمنيّة عازلة، داخل أراضي كردستان، بحجّة مكافحة «الإرهاب» ومحاربة الكردستاني. لكن الأميركيين رفضوا الطلب التركي في شكلٍ قاطع. وبين 2004 وخريف 2007، خفّض الأتراك طلبهم إلى السماح بغزو كردستان العراق، بحجّة مكافحة الكردستاني، وأيضاً رفضت أميركا ذلك. وفي 5 تشرين الأول (أكتوبر) 2007، زار أردوغان أميركا، والتقى بجورج بوش الإبن، وأبدى كل صنوف الندم والاعتذار لأميركا عن عدم تعاونه في حرب إسقاط صدّام حسين في 2003. وتحدّث الإعلام التركي والعالمي عن التوبيخ الذي تلقاه أردوغان من بوش. وكان كل ذلك فقط كي تسمح واشنطن لأنقرة بغزو كردستان.
بعد تلك «البهدلة» ومرور نحو 5 سنوات على إسقاط صدّام، سمح بوش لأردوغان بغزو كردستان، عبر التنسيق الأمني والعسكري مع واشنطن التي حددت لأنقرة «ساعة الصفر» في شباط (فبراير) 2008، وكان ذلك لمصلحة الكردستاني بالضدّ من قدرات الجيش التركي. ذلك أن كثافة الثلوج والظروف الجويّة الصعبة، والمناطق الجبليّة الوعرة في مناطق زاب وقنديل في ذلك التوقيت للعمليّة العسكريّة، كانت تماماً لمصلحة المقاتلين الأكراد. وغزت تركيا كردستان العراق في 19/2/2008، ومنيت بهزيمة كاسحة. وقتل 250 جندياً، ودمرت مدرّعات وأسقطت مروحيّة كان على متنها ضبّاط كبار. ووقع العديد من الجنود الأتراك أسرى. كل ذلك، خلال أسبوع.
وبأمر من وزير الدفاع الأميركي السابق روبرت غيتس، هرع الجيش التركي منسحباً في 29/2/2008. وكالعادة، أصدرت هيئة الأركان التركيّة بياناً قالت فيه إن الاجتياح العسكري حقق كل أهدافه، وقتل آلاف «الارهابيين» ونظّف المنطقة منهم. وتكتّم البيان على الخسائر الفادحة التي مني بها الاتراك. ماذا حدث عقب ذلك؟ اضطرت تركيا للدخول في مفاوضات سلام مع الكردستاني في أوسلو. وانتقلت هذه المفاوضات إلى سجن عبدالله أوجلان، ومقر قيادة الكردستاني في جبال قنديل! علاوة على ذلك، اضطرت تركيا للاعتراف بالفيدرالية الكرديّة العراقيّة، وفتحت قنصليّة تركيّة في أربيل عاصمة الإقليم، وصارت تستقبل رئيسه مسعود بارزاني استقبال القادة والملوك والرؤساء، بعد أن كان أردوغان يرفض مجالسته ويعتبره مجرّد «زعيم عشيرة»!.
من الأهميّة بمكان إعادة التذكير بهذه التواريخ والأحداث، لأن ذاكرة الرئيس التركي إمّا مثقوبة أو أن المحيطين به من رهط المستشارين السياسيين والأمنيين مصابون بثقب متفاقم في الذاكرة. ذلك أن تنظيم «داعش» الإرهابي حل محلّ نظام صدّام حسين، بحيث شكلت واشنطن تحالفاً دولياً ضد التنظيم، وطولبت أنقرة بالمشاركة فيه، إلاّ أنها لم تمانع وحسب، بل تورّطت في دعم التنظيم أيضاً، وفي دعم «النصرة» وجماعات تكفيريّة إرهابيّة أخرى، تقاتل على الأرض السوريّة، وتستخدمها أنقرة كأذرع عسكريّة في مواجهة الأكراد بالدرجة الأولى، وفي مواجهة النظام السوري ثانياً.
ومجدداً طالبت تركيا مراراً حلفاءها الغربيين بضرورة إقامة منطقة عازلة، تشرف عليها أنقرة، داخل الأراضي السورية، تارةً بحجة حماية اللاجئين والنازحين، وتارةً أخرى بحجّة توطينهم فيها، ومنع الهجرة إلى أوروبا، وتارةً ثالثة، بحجّة جعل هذه المنطقة قاعدة انطلاق العمل العسكري ضدّ نظام الأسد. رفضت أميركا وأوروبا الطلب التركي، بسبب عــدم الثقــة بــنوايا تركيا، بعد كل ذلك التورّط والضلوع في دعم التنظيمات التكفيريّة، لا سيما «النصرة» و»داعش»، والسماح لمرور المقاتلين من سورية وإليها، ومن أوروبا وإليها، وشراء نفط «داعش»، ومعالجة جرحى التنظيم الإرهابي في المستشفيات التركيّة… الخ. زد على ذلك عدم وجود أية ضمانة لعدم تحوّل هذه المنطقة، في ظل السيطرة التركيّة، إلى مقرّ للتنظيمات التكفيريّة، وألاّ تستخدمها تركيا للضغط على نظام ما بعد الأسد، في حال لم يــتــوافــق مــع الأجــندة التركــيّــة. وليست هنالك ضمانات مسـتقبلاً بألا تجري تركيا استفتاءً صورياً، يقضي بضم هذه المنطقة إليها، كما حدث سنة 1939 مع لواء اسكندرون!.
عليه، وقفت تركيا في الضفّة المقابلة لأميركا، عبر الدعم الخفي والظاهر للتنظيمات التكفيريّة وجماعات الإسلام السياسي في مصر وليبيا والعراق وسورية. وبعد تحرير كوباني من «داعش»، وسيطرة المقاتلين الأكراد على منطقة تل ابيض، بما يناقض الرغبة التركيّة، وضمّها إلى المنطقة الكرديّة (الإدارة الذاتية الديموقراطية التي أعلنها حزب الاتحاد الديموقراطي من جانب واحد) بدأت أنقرة تخشى تكرار سيناريو 2003، وصارت تبدي رغبتها في الانخراط المتأخّر بالحرب على «داعش». ولكن بعد ماذا؟ بعد أن أعلن الكرد الفيدراليّة، وبدأوا يحاولون الاتجاه نحو مناطق الباب ومنبج وجرابلس التي ما زالت تحت سيطرة «داعش»، أي بعد أن ملأ الكرد الفراغ الذي تركته تركيا في الحلف الأميركي ضد «داعش» و»النصرة» وتفريخات «القاعدة» في سورية!.
ولتلافي الخطأ الجسيم الحاصل، ومحاولة إعادة الودّ بين أنقرة وواشنطن، اجتمع أردوغان بأوباما على هامش قمّة النووي المنعقدة في واشنطن. وحاول تقديم الاعتذارات والأعذار للإدارة الأميركيّة في 31/3/2016، كما فعل في 2007 مع بوش الابن، لإرضاء واشنطن وطلب الصفح والعفو، وإقناع الأميركيين بضرورة إقامة منطقة عازلة في سورية، تحت السيطرة التركيّة، والحؤول دون تنامي السلطة الكرديّة ونفوذها شمال سورية.
الإعلام التركي الموالي للحكومة هلل لهذا اللقاء على أنه تغيير جوهري في استراتيجيّة أميركا، واستجابةً للرغبة التركيّة في نفض اليد من الأكراد. لكن من المبكر جداً القول إن أميركا الأوباميّة ستمنح تركيا الضوء الأخضر لإقامة المنطقة العازلة أو تفويضها بأي تدخّل عسكري في سورية. وحتى لو وافقت واشنطن على إقامة منطقة عازلة بين المنطقتين الكرديتين (القامشلي وعفرين) الواقعتين تحت سلطة «الاتحاد الديموقراطي»، وهذا سقف ما يطمح إليه الأتراك حالياً، فهذا لا يعني أن واشنطن رمت بالورقة الكرديّة في سورية، بعد كل الخذلان والخيبة من حليفتها أنقرة، في ما يخصّ الحرب على «داعش». غالب الظن أن السلطة الكرديّة (الحكم الذاتي او الفيدرالية) في شمال سورية ذاهبة إلى التكريس، في سياق تفاهم أميركي – روسي. أما تركيا فمستعدّة ليس فقط للقبول ببقاء الأسد، بل أيضاً لإعادة العلاقة معه، فقط لنسف هذه التسوية التي تصبّ في طاحونة أكراد سورية. فهل تنجح في ذلك؟!.