الفوبيا التركية من الكُرد تحشر بها في المستنقع السوري
عبــد البـــاقــي يـــوســــف
تشير الأحداث والمستجدات الأخيرة من دخول تركيا لجرابلس السورية إلى أن التاريخ يعيد نفسه بشكلٍ أو بآخر؛ فقبل نحو مئة عام كان كمال أتاتورك يمد الوطنيين السوريين المناهضين للإنتداب الفرنسي بالمال والسلاح إلى أن توصل مع الفرنسيين إلى اتفاق لترسيم الحدود، استعادت بموجبها تركيا مساحات كبيرة من الأرض والعديد من المدن المهمة، تخلت تركيا مقابل ذلك عن تزويد الوطنيين المناوئين للفرنسيين في سوريا، وكانت إحدى نتائج هذا الاتفاق سلب لواء إسكندرون عام 1936.
تركيا احتلت جرابلس بمباركة المعارضة السورية وبشكل خاص الإئتلاف الوطني السوري، وبدعم من فصائل مسلحة أوجدتها أجهزة الدولة التركية، مستخدمةً إسم الجيش الحر كواجهة، وبذريعة محاربة داعش، رغم أن داعش كان قد سيطر على تلك المناطق منذ نحو ثلاث سنوات، وقتها لم تحرك الحكومة التركية ساكناً ضدّ هذا التنظيم، يضاف إلى ذلك أن المعابر التركية مع سوريا في المناطق التي كانت تحت سيطرة داعش استمرت في العمل، خاصة معبر جرابلس.
لم يكن سكوت النظام السوري صاحب شعار “صون السيادة الوطنية” عن التدخل التركي في جرابلس مفاجئاً، الموقف يأتي كعربون لعودة علاقات نظام الأسد مع تركيا، فهذا النظام تنازل لتركيا سابقاً عن حق سوريا في لواء اسكندرون. لكن المدهش هو أن تساند المعارضة السورية تركيا في احتلالها لجرابلس، في وقت يأتي هذا الاحتلال بعد تفاهم تركيا مع إيران وروسيا اللتان ساندتا نظام دمشق، ولولاهما لما استطاع النظام الاستمرار بالحكم. والسؤال الذي يطرح نفسه هو: مالذي يجنيه الائتلاف السوري من مساندته للحكومة التركية في اجتياحها لجرابلس؟
من دواعي السذاجة أن تقنع فصائل المعارضة نفسها بأنَّ وجود تركيا في حلف الناتو منعها من إتخاذ الموقف المطلوب طيلة السنوات السابقة في حين عملت الحكومة التركية بكل طاقتها لإفشال الناتو أثناء تدخله في ليبيا، كما وسبق لتركيا أن تدخلت قواتها في قبرص عام 1974م متجاوزةً بذلك قرارات الناتو، كما وأنها رفضت استخدام قوات التحالف لقاعدة انجرليك التركية أثناء حرب العراق 2003م، واليوم تفرض موقفها على الآخرين بالتدخل في جرابلس.
أعرب الرئيس التركي رجب طيب اردوغان ورئيس وزرائه بن على يلدرم بصراحة، وفي أكثر من مناسبة عن رفضهم لأي دور كُردي فاعل في سوريا، ومعاداتهم لأي اقليم يكون الكُرد فيه قوة رئيسة. فالاستراتيجية التركية لا تقبل بأن يصبح الكُرد شركاء حقيقيين في دولة سوريا المستقبل، لذا كانت السياسة التركية خلال خمس سنوات من عمر الإنتفاضة السورية تفضل تغيير النظام من خلال إنقلاب عسكري، وإيصال حلفائها من المعارضة الى السلطة دون إجراء إصلاحات حقيقية، لذا لم تبدِ تركيا أية جهود حقيقية للتوصل الى حل سياسي للأزمة السورية تخوفاً من أن تؤدي تلك الحلول إلى تضمين حقوق المكونات السورية المختلفة، بشكل خاص الكُرد والعلويين.
السياسة التركية هذه طابت للمعارضة السورية المقيمة في تركيا، لتتشبث برؤاها ومواقفها في عدم البحث عن حلول حقيقية تؤدي الى تسوية تاريخية تضع أسساً لبناء دولة وطنية جديدة، ترى جميع المكونات السورية نفسها من خلالها. بغض النظر عن المسؤولية الرئيسية للنظام عن ما حصل ويحصل للشعب السوري، فإن المعارضة السورية وبشكل خاص الائتلاف السوري الذي كان يحظى يوماً بمساندة أكثر من مئة دولة في العالم تسببت في إطالة معاناة الشعب السوري، وذلك بسبب تعنتها وتهربها من الحلول الحقيقية، مما أدت إلى نفور معظم الدول المساندة لها.
في خضم هذه الاحداث المتسارعة يجد المجلس الوطني الكُردي نفسه في موقف صعب، بين معارضة من المفترض أنه جزء منها، لم تُقدِم لحد الآن على القبول بمطالب المجلس حيال القضية الكُردية في سوريا سوى ببعض المقولات الضبابية، وبين فصيلٍ كُرديٍ (حزب الاتحاد الديمقراطي) لا يقبل بشراكته، بل ويسعى الى قمعه كل ما سنحت له الفرصة. ويأتي في هذا الإطار موقف المجلس الغير واضح حيال التدخل التركي في جرابلس.
من الخطأ أن يعتبر المجلس الإدانة الصريحة للتدخل التركي انجراراً لمواقف حزب الاتحاد الديمقراطي الذي استخدم الشماعة التركية طيلة السنوات السابقة لتخوين وقمع أصوات المجلس. إن موقف المجلس الوطني الكردي حيال التدخل التركي يجب أن يكون نابعاً من نقطتين: الأولى، بما أن المجلس يعتبر نفسه فصيلاً كُردياً سورياً، فالتدخل التركي يأتي في إطار التدخل الخارجي في الصراع السوري. الثانية، بما أن تركيا أعلنتها مراراً أن تدخلها يأتي لإيقاف أي طموحات كُردية بإقامة إقليم خاص بهم في شمال وشمال شرق سوريا، فهذا يعني أنها ضمنياً تُعادي المجلس الوطني الكُردي باعتباره يطالب بأن تصبح سوريا المستقبل لامركزية سياسية!.
على الرغم من أن الحركة الكُردية في سوريا بجميع فصائلها عبرت باستمرار عن تفهمها لدور تركيا الاقليمي، وأكدت على أن إيجاد حل عادل للقضية الكُردية في سوريا سيضمن استقرار الحدود مع تركيا الجارة، إلا أن الفوبيا من المسألة الكُردية تبقى عائقاً أمام انفتاح تركيا عليها، ويؤدي بها اليوم لأن تحشر نفسها بالمستنفع السوري والذي سيكلفها كثيرا، فالخروج من المستنفع ليس بسهولة الدخول إليه.
Rudaw