القضية الكُردية والحرب الباردة الجديدة
شاهين أحمد
بدون أدنى شكٍّ أن ما بعد جائحة كورونا لن يكون كما قبلها ، ومن المعلوم أنّ كلّ المؤشرات والتقديرات تدلّ على أنّ العالم مقبل على حربٍٍ جديدة شاملة لا مفرّ ولا مهرب منها ، وأنّ العوامل الضرورية لاندلاعها باتت شبه مكتملة ، ومبرّرات حدوثها لدى طرفي المواجهة فيها باتت شبه متوفّرة بشكلٍ أو بآخر ، ولست الشخص الأول الذي يكتب في هذا الموضوع ، بل سبقني إليه كبار المحلّلين الدوليين والخبراء الإقليميين أيضاً ، ولكنّ مايهمّني في هذا الجانب هو مصير الشعب الكُردي ، وموقع القضية الكُردية خلال هذه الحرب العتيدة ، والمطلوب من القيادة الكُردية من دراسةٍ وعملٍ وجهدٍ كي لا تبقى قضية الشعب الكُردي منسيّة كما كانت خلال وبعد إنتهاء الحروب العالمية الساخنة والباردة السابقة ، وكيفية إخراجها من حقول البازارات السياسية بين اللاعبين إلى فضاءات الاهتمام التي ترقى إلى مستوى ثقلها وأهميتها وعدالتها ، وكذلك مساهمتها في إرساء السلام والازدهار والاستقرار في هذه المنطقة الحيوية ، في حال إيجاد حلول واقعية عادلة لها .
ماهي أهم المؤشّرات الدالّة على حتمية الانزلاق نحو حقبةٍ جديدة لحربٍ عالمية باردة وشاملة ؟.
التوترات السياسية والعسكرية التي نراها في أكثر من موقعٍ ومنطقةٍ من العالم ( سوريا وأوكرانيا وناغورني كارباخ وليبيا واليمن ومساحات كبيرة من أفريقيا …إلخ )، هي مؤشرات، ولاننسى هنا بحر الصين الجنوبي حيث يتزايد النشاط العسكري الصيني بشكل ملحوظ ،
ونشر الولايات المتحدة الأمريكية لمنظومة ” ثاد ” المتطورة للدفاع الجوي في كوريا الجنوبية كردّ فعلٍ على التعزيزات الصينية في تلك البقعة التي تتزاحم فيها السفن والبوارج الحربية للمتنافسين ، وتشكّل مؤشّراً جدّياً لقدوم تلك الحرب ، تلك الحرب التي ستكون باردة ولكن قد تتخلّلها بعض المحطات الساخنة أو الاحتكاكات العسكرية . وكذلك حروب الوكالة التي تجري في أكثر من جبهةٍ بين اللاعبين الإقليميين كتلك التي تجري في اليمن بين السعودية والإمارات ومصر من جهةٍ و إيران وحلفائها من جهةٍ أخرى ، وأيضاً المناخات السائدة اليوم تشبه إلى حدٍٍّ كبيرٍ أجواء الحرب الباردة التي بدأت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية و انقسام العالم إلى جبهتين والتفافها حول القطبين المعروفين الشرقي بقيادة الاتحاد السوفياتي السابق ، والغربي بقيادة أمريكا .
هذه الأجواء والمناخات هي مؤشّراتٌ لحربٍ قادمة، والتي ستشكّل الصين و روسيا وبعض الدول الأخرى مثل إيران وغيرها أحد أطرافها – ولا ننسى هنا المحاولات الفاشلة للولايات المتحدة الأمريكية في احتواء روسيا والاتفاق مع كوريا الشمالية ، وتقوية الهند لعزل الصين والاستفراد بها – والولايات المتحدة الأمريكية و بريطانيا وفرنسا والحلف الأطلسي طرفها الآخر .
إذاً الحرب العالمية قادمة لامحالة، ولكن هل ستكون باردة أم ساخنة ؟.
مختلف الآراء تجمع على أنها ستكون باردة ، ولكنها ستكون مختلفة في أدواتها وطبيعتها ونوعية أهدافها عن الحرب الباردة السابقة ، وهناك مَن يقول بأنها بدأت فعلاً منذ سنواتٍ ، ولكنها ربما كانت عبارة عن محاولاتٍ أولية في مسار التأسيس والتحضير لهذه الحرب. وهناك شخصيات سياسية عالمية بارزة شهدت حقبة الحرب الباردة السابقة وصراعاتها العسكرية المدمّرة مثل ميخائيل غورباتشوف الذي حذّر من اندلاع حرب باردة جديدة في ظلّ التوتّرات الحاصلة ، وكذلك بعض الأكاديميين الغربيين من امثال روبرت ليفغولد وستيفان كوهين وروبرت كرين وغيرهم يؤكّدون بأنّ هناك حرب باردة جديدة جارية بين الصين وروسيا وحلفائهما من جهةٌ ، وأمريكا وحلفائها الغربيين من جهةٍ أخرى .
في الحرب الباردة السابقة كانت روسيا ومن خلال الاتحاد السوفياتي والكتلة الاشتراكية تتزعّم القطب الشرقي ، ولكن في الحرب الباردة الجديدة القيادة ستكون للصين التي بدأت تغزو العالم بمنتجاتها وتقدّمها التكنولوجي وصناعاتها العسكرية المتنوّعة ، وخاصةً تفوّقها في مجال الذكاء الصناعي ، وفوزها في ميزان التبادل التجاري مع الغرب عموماً والولايات المتحدة خصوصاً ، وتربّعها على القمة فيما يتعلّق بعدد براءات الاختراع في السنوات الأخيرة .
ما هي الأسباب والمبرّرات التي ستؤدّي إلى الانقسام الدولي مجدّداً ؟ وبالتالي ظهور قطبٍ آخر منافسٍ لأمريكا ، وماهي مقوّمات هذه القطبية الثنائية التي ستؤدّي إلى إعادة إنتاج نظامٍ عالمي جديد ؟.
ينصح الدبلوماسي الأمريكي المخضرم هنري كيسنجر القيادة الأمريكية بالقبول بوجود منافسٍ وقطبٍ آخر لزعامة العالم حيث يقول ” إنّ على الولايات المتحدة أن تدرك أنه لم يعد بالإمكان تحقيق تفوّقٍ أحادي الجانب في مجالات القوة الاقتصادية والتكنولوجية ” ، ويدعو الإدارة الأمريكية إلى التعامل مع الصين وفق نصيحته المذكورة ، ويعتبر كيسنجر أنّ التفوّق التكنولوجي المطلق للولايات المتحدة الأمريكية في مجال الذكاء الصناعي تحديداً على الصين هو أمرٌ مستحيل ، ويدعو الأمريكيين إلى الجلوس والتفاهم مع الصين عبر الحوار في إقرارٍ واضح واعترافٍ صريح بموقع الصين كقطبٍ جديد منافسٍ لبلاده ، ويحذّر من الانجرار والانزلاق إلى حربٍ عالمية ساخنة مدمّرة ،وخاصةً أن الولايات المتحدة تكاد تنكفىء على نفسها ، وتغرّد منفردةً خارج سربها التقليدي التاريخي ، وماحصل خلال ولاية الرئيس السابق دونالد ترامب كان واضحاً لجهة تراجع علاقاتها مع غالبية حلفائها وجيرانها ، وانسحابها من جبهاتٍ عدة ، وترك فراغٍ كبير تمّ استغلاله من قبل المنافسين ، وإعطاء صورة سلبية وضعيفة عن عظمة أمريكا وقيادتها للعالم ، الأمر الذي شجع الكثير من الجماعات الإرهابية على إعادة تنظيم صفوفها واستئناف نشاطها . وكذلك الشيخوخة التي تعاني منها أوربا الغربية حليفة أمريكا بالرغم من تطعيمها بالشباب المهاجر والهارب من بؤر الصراع في الشرق الأوسط . بالإضافة إلى استسلام غالبية الدول الأوربية الغربية أمام جائحة كورونا، ولم تستطع أمريكا الوقوف إلى جانبها في هذه المحنة الإنسانية !.
والأسباب التي تدفع باتجاه اندلاع تلك الحرب تتعلّق بالأساس بالتفوّق التجاري والتكنولوجي والإبداعي للصين على أمريكا والغرب عموماً ، والملفت أنّ القيادة الصينية لجأت إلى التفوّق التكنولوجي والمعرفي الإبداعي والردع النقدي بدلاً من الردع النووي والعسكري بالرغم من أنّ الصين تتقدّم في الجانب العسكري أيضاً ، بمعنى أنّ القيادة الصينية لم تقع في نفس الخطأ الذي وقعت فيه القيادة السوفياتية السابقة ، حيث تفوّق الاتحاد السوفياتي عسكرياً وحقّق التوازن العسكري والنووي مع أمريكا وحلفائها ،ولكنه تأخّر وتخلّف في بقية المجالات، الأمر الذي سارع في إنهياره ، لكنّ الصين تتفوّق وتتقدّم في جميع المجالات .
وكذلك الاتهامات التي تطلقها أمريكا ضدّ الصين بأنّ الأخيرة قامت بسرقة آلاف الوثائق التي تشكّل خرائط الإبداعات والابتكارات في مجال الذكاء الصناعي وغيره ، ومطالبة الأمريكيين للصينيين بتعويضاتٍ تُقدّر بعدة ترليونات من الدولارات عن تلك الوثائق المزعومة ، والجدير ذكره أنّ هناك ملفّين خطيرين آخرين لايقلّان أهميةً عن هذه المزاعم، وهما الأول : يتعلّق بموضوع العملة المقياسية المعتمدة في التبادل التجاري العالمي حيث ترفض الصين اعتماد الدولار في عملية التبادل تلك ، وتستخدم عملتها المحلية ( اليوان ).
والملف الآخر: يتعلّق بالشبكة المعلوماتية الدولية حيث الشبكة المعمول بها حالياً عائدة قيادتها ومزاياها للولايات المتحدة الأمريكية بالمطلق ، والصينيون يعملون على طرح شبكةٍ مماثلة موازية على الصعيد الدولي وبقيادتها وملكيتها الصينية، وكذلك تعمل بيجين على شبكةٍ صينية داخلية مغلقة لسكانها .
أين يقف الشعب الكُردي في ميدان الحرب القادمة ؟ وما المطلوب من القيادة الكُردية كي لاتبقى القضية في أدراج النسيان ولايبقى الشعب الكُردي محروماً ومظلوماً قرناً آخر ؟.
بما أنّ القطبية الثنائية ستكون واقعاً في الحقبة القريبة القادمة ، وأنّ الحرب الباردة الجديدة آتية لامحالة ، وأنّ العالم سيشهد انقساماً جديداً من نوعٍ آخر، ويتوزّع على أكثر من قطب ، وسيتمّ ترتيب العالم ومنطقتنا من جديد وفق القطبية الجديدة ، ووفق مناطق نفوذٍ للأقطاب ووكلائهم ، وبما أنّ الشعب الكُردي في المنطقة عامةً كان الأكثر تضرّراً من القطبية الثنائية السابقة التي حكمت العالم بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وحتى انهيار القطب الشرقي المتمثّل بالإتحاد السوفياتي السابق ، وما نتج عنه من سقوط جدار برلين وجدران أخرى فصلت نفوذ القطبين . وبما أنّ الذاكرة الكُردية تحمل الكثير من المواقف المؤلمة من تلك الحقبة السوداء ، حيث مازال الشعب الكُردي يتذكّر حرمانه من دولته المستقلة أسوةً بشعوب العالم ، وجريمة القضاء على جمهورية كُردستان ( عاصمتها مهاباد ) في الجزء الكُردستاني الملحق بإيران ،وكذلك اتفاقية التآمر التي حصلت في الـ 6 من آذار عام 1975 في الجزائر والتي غدرت بالثورة الكُردية في كُردستان العراق ،ومواقف أخرى مؤلمة على حساب الشعب الكُردي المظلوم . وبالمقابل لايمكن أن ينسى الكُرد فضل بريطانيا وفرنسا وأمريكا في استصدار القرار الإنساني لمجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة رقم 688، الذي اعتُمِد في الـ 5 من نيسان 1991والذي كان نتيجةً مباشرة لانهيار القطبية الثنائية ، والذي أدّى إلى حماية جزءٍ من كُردستان العراق من بطش وجرائم نظام صدام حسين المقبور . إذاً القيادة الكُردية مطالبة اليوم بالوقوف على أسباب تلك الإخفاقات التي طغت على غالبية محاولات الكُرد الهادفة إلى التحرّر والانعتاق ، واستخلاص الدروس والعِبر من تلك المرحلة ، والقناعة التامة بأنّ الدول هي مصالح ، وأنّ المبادئ هي زينة ظاهرية للمصالح ، وأنّ المنطقة الكُردية ستكون أيضاً مستهدَفة مثل غيرها من قبل مصالح الأقطاب ، والحكمة تقتضي أن تعمل القيادة الكُردية على خلق مساحةٍ مشتركة بين قضية الشعب الكُردي ومصالح هؤلاء الذين سيتحكّمون بمصير المنطقة والعالم .
ملخّص الكلام :العالم سيعود إلى القطبية الثنائية من جديدٍ ، القطب الغربي بقيادةٍ أمريكية وأطلسية ، والقطب الشرقي سيكون بقيادةٍ مشتركة صينية – روسية ، والشرق الأوسط سيشهد أيضاً استقطاباتٍ ” قد ” تؤدّي لبروز ثلاثة أقطابٍ إقليمية فاعلة ومؤثّرة كوكلاء للقطبين
الرئيسيين المذكورين ، والأقطاب الإقليمية الثلاث ستكون كما يلي :
القطب الأول : سيكون الأقوى وبقيادةٍ إسرائيلية ،وسيتكّون من إسرائيل والخليج العربي ومصر وغيرها ،
القطب الثاني : سيكون بقيادة تركيا وبعض حلفائها من المسلمين السنة .
القطب الثالث : سيكون بقيادةٍ إيرانية وحلفائها واستطالاتها الشيعية .
وهنا على القيادة الكُردية أن تحدّد موقعها بكلّ حكمةٍ وواقعيةٍ مع أحد الأقطاب الإقليمية المذكورة مع عدم خلق مبرّرات الصدام مع القطبين الآخرين ؛ لأنّ المنطقة برمّتها ومن ضمنها كُردستان ستبقى مستهدَفة من جانب مصالح المتنافسين ، وهنا ثمّة أسئلة تواجه القيادة الكُردية في هذه المرحلة وتطرح نفسها بإلحاحٍ ، لا سيما ونحن على مشارف الانزلاق إلى حقول الحرب الباردة الجديدة بعد الانتهاء من جائحة كورونا ، منها تلك المتعلّقة بمآلات القضية الكُردية بعد الدخول في مخاضات تشكيل وولادة النظام العالمي الجديد المكوّن من أكثر من قطبٍ ، وأين سيكون موقعنا ، مصالح شعبنا ؟
وما هي الصراعات السياسية التي علينا أن نخوضها أو نكون جزءاً منها ، وتلك التي علينا أن نتجنّبها ؟
وماهي الأطراف التي علينا أن نكون معها …؟.
………… وللموضوع تتمة .