الكورد.. ما بين العقيدة والانتماء القومي
ليلى قمر
ببساطة وبعيداً عن التنظير وتركيب الكلمات والجمل، وفي دخول مباشر إلى صلب الموضوع، الذي يشغل تفكيري، وأنا على ثقة، بأن الكثيرين مثلي توقفوا عندها ملياً، وأعني به قضية الشعب الكوردي ولاحقته كما وتشعباته عبر العصور، والتناقضات التي وصلت في أحيان كثيرة إلى صراعات مريرة، سواء من عقائديات متعددة ومتشعبة، أو لأمميات عابرة لخصوصية القومية الكوردية، أو دول صممت ولاتزال على ضمها وتذويبها.
وهذه الطروحات بالتأكيد ستعود بنا إلى الوراء لفترات زمنية طويلة، ومهما سعينا إلى الاختزال، إلا ان الوقائع توضح وبلا لبس، أنه وعلى الرغم مما تعرض له الشعب الكوردي عبر تاريخه المفعم بالجور والظلم، وما لحقه من إرهاق وانتهاكات سواءً بسبب التقسيم والاحتلال القاسي، أو من انتهاك واغتصاب فعلي استهدف وجوده كشعب يعيش في وطن، أفرزت فيه عشقاً لا مثيل له لقضيته وقداسة لحريته، واكبه صراعه المرير من أجل الحصول على أبسط مستلزماتها، أسوة ببقية شعوب العالم، ورغم قدسية تلك القناعات، وما رافقها من كم كبير للظلم والقهر، لكنه الواقع الكوردي بخصوصيته المعروفة، حيث أفرزت كثيراً من العوامل التي تداخلت وتصارعت، وأعني بها هنا، الجوانب الدينية والعقائدية، والتي فرضت، وبعبارة أوضح، أفرزت مواقف انحازت بالكامل، في العديد من اللحظات التاريخية، إلى الدين أو العقيدة كمفهوم آيديولوجي، خاصة في المرحلة الإسلامية وأمامنا تجربة صلاح الدين الأيوبي كخير مثال، هذه التجربة التي لست بصدد مناقشتها الآن ولا تقييمها حتى ضمن سياقها التاريخي، بقدر ما هو الأهم هنا موضوعة – فكرة الدولة القومية للكورد.
هذه الفكرة التي – بتصوري – بدأت تدخل نفق الثبات القطبي، كنتيجة حتمية للتوافقات الدولية، منذ سايكس بيكو مروراً إلى معاهدة سيفر واتفاق لوزان وتشكيل دولتي العراق وسوريا في فترة ما بين الحربين العالميتين، وصولاً إلى الترسيمات النهائية بعد تشكيل هيئة الأمم المتحدة، ومن دون التطرق إلى تلك العوامل الخارجية، فأن العامل الذاتي الكوردي الخاص، لعب دوراً مهماً في افتعال تناقضات وخلافات تفاوتت في المطالب، لابل شتتها في مذهبيات وآيديولوجيات متعددة ومتناقضة إلى حد الصراع، ومع هذا لم يغب عن الوعي القومي الكوردي أبداً، رغم هيمنة مطلب الحق بدولة كوردستان مستقلة.
إلا أن مسألة التعايش المشترك مع الشعوب الجارة، والحفاظ على المشتركات الممتدة جذورها إلى حقب زمنية عديدة، وبالرغم من تأطير الكورد في جغرافيات تلك البلدان المحدثة على الرغم من أنها نتاج لتشكلات استعمارية اجتزت الأرض الكوردية وقسمتها، إلا أن مبدأ التعايش السلمي استمر يترسخ في ذهنية وسلوكية الشعب الكوردي، لابل وحتى في القيم والمفاهيم النضالية التي قام بها لنيل حقوقه المشروعة، وعليه فقد بقي غالبية الكورد ثواراً لقضية، لا متعطشين لسفك الدماء، أو الجنوح إلى الانتقام، وفي عنفوان وقوة ثوراتهم، وعلى الرغم من بطش الأعداء، بقي الجنوح إلى السلم والسلام عنواناً ومسلكاً خاضته القيادات لثورات كوردستانية عديدة، والغدر بها كان دائماً عنواناً لأعدائها.
أن الدول الأربعة التي أصبحت كوردستان مقسمة بينها، وبالرغم من مساعيها والمواقف الدولية التي أصبحت أشبه بالبصمة الوراثية تمنحها الشرعية، على الرغم من تناقضها الكبير مع أبسط شعاراتها التي تضمن وتقر حق الشعوب والأمم، لا بل والإنسان كفرد واحترام قناعاته، والغريب في الأمر، والذي يعد في الوقت نفسه انعكاس، ونتيجة لوعي تراكمي تميز به الشعب الكوردي عبر تاريخه في الجنوح إلى التعايش السلمي، وتغليب مصالح الشعوب الأخرى حتى على حقوقه وقضاياه الرئيسية، وشكلت هذه المفاهيم النبيلة تصوراً عكسياً، وصورت على أنها نوع من الانهزامية، وخطوات جبانة تمهد إلى هيمنة الآخر والبقاء في تابعيته، في حين ان ذلك الجنوح هو في الأصل نتاج متجدد لمساحة السلم المتنامية تاريخياً في وعي المجتمع الكوردي.
أن الموروثات الدينية منها والعقائدية إن أصبحت هي الهدف بزعم عموميتها، ومن ثم استخدامها تحت أية ظرف، أو توليفة لصالح شريحة – فئة أو شعب – أمة وعلى حساب آخرين ستؤدي – والتاريخ يؤكد على ذلك – إلى إعادة إنتاج واستمرار الأزمات من جهة وتضخمها من جهة ثانية والعقائدية لم تنتج جديداً سوى نمو وتطور عامل فشلها، ولهذا فأن قضايا الأمم والشعوب يفترض بها أن تحافظ على خصائصياتها من جهة، وتحل على مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها ثانياً.
وختاماً فقد أثبت الشعب الكوردي عبر نضاله الطويل، على أنه شعب متشبع بثقافة السلم والتعايش المشترك ولم يجنح إلى الظلم والإنتقام، على الرغم من قمع وإنكار واستهداف النظم له كشعب يعيش على أرضه التاريخية، وتفهم معنى التحاور والحقوق المشتركة، وما تأسست فيه ذلك الوعي الذي يحفز العداوات ويؤدي إلى سلوكية الانتقام.
المقالة منشورة في جريدة “يكيتي” العدد 265