
الكُرد في أوروبا: تحديات الهجرة وفرص الاندماج وإبراز الهوية
أمل حسن
مع اندلاع الثورة السورية في عام 2011، امتدّت نيرانها إلى المناطق الكُردية، مما دفع أعداداً كبيرة من الكُرد إلى الفرار بحثاً عن الأمان. اضطرّ الكثيرون إلى اللجوء إلى الدول المجاورة، لكن مع تعقيد الأوضاع الأمنية والاقتصادية، وجد عدد كبير منهم طريقهم إلى الاتحاد الأوروبي، حيث بدأت رحلة جديدة من التحديات والصراعات الاجتماعية والقانونية.
عند وصول اللاجئين الكُرد إلى أوروبا، وجدوا أنفسهم في مواجهة ضغوط هائلة على جميع الأصعدة، من التكيف مع المجتمع الجديد إلى الصعوبات الاقتصادية والتعليمية والقانونية.
كان اختلاف الثقافة واللغة حاجزاً رئيسياً، لكن رغم ذلك، استطاعت الجاليات الكُردية تحويل وجودها في أوروبا إلى فرصةٌ لإبراز هويتها. فقد عملت بجهدٍ على تعزيز الثقافة الكُردية عبر الفعاليات الفنية والمهرجانات، حيث قدّمت الفلكلور الكُردي والغناء التقليدي على أرقى المسارح الأوروبية، مما ساهم في ترسيخ صورة إيجابية عنهم في المجتمعات المضيفة.
وكان للمرأة الكُردية دور بارز في هذا الحراك الثقافي، حيث لم تكتفِِ فقط بالاندماج، بل أثبتت نفسها كرمزٍ للقوة والهوية من خلال مشاركتها الفعّالة في المجالات الثقافية والفنية. هذا الحضور اللافت جعلها محطّ احترامٍ وتقدير في أعين الأوروبيين، حيث أصبحت مثالاً على قدرة المرأة الكُردية على قيادة المبادرات الثقافية والاجتماعية وتمثيل مجتمعها بأبهى صورة.
الهجرة لم تكن فقط وسيلةً للهروب من الأوضاع الصعبة، بل كانت فرصة للكُرد للتواصل مع العالم الخارجي وكسب صداقات جديدة. في كلّ بيتٌ كُردي في أوروبا تقريباً، هناك أصدقاء مقرّبون من الأوروبيين الذين تعرّفوا عن قرب على معاناة هذا الشعب، مما أسهم في خلق روابط اجتماعية وإنسانية عميقة. هذه الصداقات لم تكن مجرد علاقات شخصية، بل ساهمت في جعل القضية الكُردية أكثر وضوحاً على المستوى الشعبي في أوروبا، حيث بات كثير من الأوروبيين أكثر وعياً بالحقوق الكُردية ومعاناتهم التاريخية.
إلى جانب ذلك، كان لهذه الهجرة أثرٌ كبيرٌ في انتشار اللغة الكٌردية على نطاقٍ واسع، حيث وصلت إلى المدارس والجامعات الأوروبية، وأصبحت تُدرّس في بعض المؤسسات الأكاديمية. هذا الإنجاز لم يكن ليحدث لولا الجهود الكبيرة التي بذلها أبناء الوطن في نشر لغتهم وثقافتهم، حيث أثبتوا عشقهم لكُردستان من خلال العمل الدؤوب في مختلف المجالات، سواءً في التعليم، أو الفن، أو السياسة.
ورغم أنّ العديد من الكُرد تمكّنوا من بناء حياةٍ جديدة في أوروبا، فإنّ هناك أزمة إنسانية كبيرة يعاني منها كثيرٌ من اللاجئين، وهي تأخير إجراءات لمّ الشمل. مئات العائلات تعيش في حالة من التشتت، حيث وصل الأب أو الأم أو أحد أفراد العائلة إلى أوروبا، بينما بقي بقية أفراد الأسرة عالقين في المخيمات، أو في ظروف صعبة داخل سوريا، أو في دول الجوار. بعض هؤلاء اللاجئين ينتظرون منذ أكثر من ثلاث سنوات، ولا يزالون عالقين في دوامة البيروقراطية وتأخير الأدوار في المنظمات المختصة. هذا التأخير لا يؤثّر فقط على حياتهم اليومية، بل يترك آثاراً نفسية عميقة، حيث يعيش الكثير منهم في حالةٍ من الاكتئاب والعزلة، غير قادرين على التركيز في عملهم أو دراستهم ؛ بسبب القلق المستمر على أحبائهم. إنّ استمرار هذه المعاناة يستوجب تدخلاً عاجلاً من الحكومات الأوروبية لتسريع هذه الإجراءات وإنهاء هذه المأساة الإنسانية.
في الجانب التعليمي، واجه العديد من الشباب الكُرد تحديات كبيرة في متابعة دراستهم بسبب اختلاف الأنظمة الدراسية وتأخرهم لعامين أو أكثر، إضافةً إلى عائق اللغة الذي شكّّل تحدياً رئيسياً. دفع ذلك بعضهم إلى التخلي عن طموحاتهم الأكاديمية، بينما لجأ آخرون إلى برامج التعليم المهني لضمان فرص عمل مستقرة. لكن بالمقابل، تمكّن العديد منهم من تجاوز العقبات، واستكملوا دراستهم في الجامعات الأوروبية، وحقّقوا نجاحاتٍ كبيرة في مختلف المجالات، ليصبحوا مصدر فخرٍ لمجتمعهم الأم والمجتمعات التي يقيمون فيها. ومن هنا، تأتي أهمية دعم هذه الفئة من قبل الأحزاب السياسية الكُردية، التي تمتلك فرصة حقيقية للوصول إلى البرلمانات الأوروبية وإيصال صوت قضيتهم إلى العالم.
ورغم النجاحات التي حقّقها البعض، فإنّ هناك مَن ضاعوا في متاهات المجتمع الأوروبي، غير قادرين على التكيف ، فوقعوا ضحية العزلة أو انجرفوا إلى طرق لا تليق بطموحاتهم الأصلية. هذه الظاهرة تشكّل مصدر قلق حقيقي، وتتطلّب جهوداً مضاعفة من الجاليات الكُردية والمنظمات المهتمة لضمان عدم فقدان الشباب في مجتمعات تختلف جذرياً عن بيئتهم الأصلية.
تعاني العديد من العائلات الكُردية من القلق بسبب الإقامات الفرعية، التي لا تمنحهم حقوق اللجوء الكاملة، مما يجعل مستقبلهم في أوروبا غير مستقر. هذا القلق تصاعد مع الحديث المتكرر في الأوساط الأوروبية عن إعادة اللاجئين إلى سوريا، رغم أنّ المناطق الكُردية لا تزال تعاني من الحروب والانتهاكات، ما يجعل العودة بالنسبة لهم مخاطرة غير محسوبة العواقب.
إننا نناشد الدول الأوروبية بعدم التسرع في اتخاذ قرارات بشأن عودة اللاجئين، خاصةً أنّ الوضع في كُردستان سوريا لا يزال غير مستقر. كما نطالب الحكومات الأوروبية بلعب دور إيجابي في دعم القضية الكُردية، والاعتراف بمعاناة الشعب الكُردي، وضمان حقوقه في تقرير مصيره، بدلاً من ممارسة الضغوط لإعادتهم إلى أوطانهم غير الآمنة.
الهجرة الكُردية إلى أوروبا كانت نتيجة لظروف قاسية، ورغم التحديات، استطاع الكثير من الكُرد أن يثبتوا قدرتهم على النجاح والاندماج في مجتمعاتهم الجديدة، محافظين على هويتهم وثقافتهم، بل وساهموا في تعزيزها على مستوى أوروبي. غير أنّ المخاطر لا تزال قائمة، سواءً من ناحية فقدان بعض الشباب لطريقهم في الغربة، أو من ناحية الضغوط السياسية لإعادتهم إلى مناطق غير آمنة.
إنّ دعم اللاجئين الكُرد ومنحهم فرصاً حقيقية للاستقرار والمشاركة السياسية لا يخدم فقط مصالحهم الفردية، بل يعزّز أيضاً قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان في المنطقة التي أتوا منها.
المقال منشور في جريدة يكيتي العدد”329″