آراء
الهيمنة والفضاء الثقافي البديل
وليد حاج عبدالقادر –
بعد فشل النظم بتركيبتيها العسكرية والسياسية ، وبكلّ أشكالها التطبيقية و ممارساتها بحقّ شركائها من المكونات الأخرى في سوريا ، وكنتيجةٍ عملية أيضاً وكانعكاسٍ فعلي للعديد من الأزمات البنيوية التي نمت وتضخّمت داخل دول أخرى شبيهة والتي تأطرت ضمن خرائط سايكس بيكو ، وذلك كمؤشّرٍ عملي بقرب تمزّق تلك الخرائط ، كنتاجٍ لما تراكم أصلاً ضمن تلك – التشوّهات التطبيقية – والتي تحوّلت فيها الأغلبيات إلى قوة نبذٍ بسبب مساعيها الجبرية لتذويب الآخرين ، ومع انكشاف أساليبها حتى عند غالبياتها المفترضة أيضاً ، هذا الأمر الذي كان – ولايزال – يتوقّع منها لفظ الاستئثار وتجريم الهيمنة ، إلا أنّ تراكمات النزعات وكنتاجٍ لقرونٍ امتدّت إلى عصرنا الحالي ، والذي تمدّد خلال سبل عديدة سيما المعرفية منها ، ولعلّ أكثر التوجّهات التي ساهمت عملياً في منهجة الممارسات التطبيقية إنْ في تعريب أو تفريس وتتريك المكونات المختلفة عنها ، رغم فشلها الذريع في كلّ سياساتها التمييزية من تغييرٍ أو تهجير ديمغرافي أو بالحروب والاعتقالات ، ولكنها مع بداية انكشاف تلك الأنظمة ، واندلاع ثوراتٍ شعبية عارمة ضدها ، واكبتها نزاعات مسلحة ، لم تتفاجأ المكونات الاخرى مجدّداً من التهميش الحقوقي و السياسي التي أخذت بعض من عناوينها تظهر هنا وهناك ، لا بل أخذت تطفو للعلن تعليلات وتصورات من أناس ندرك أنّ بعضهم خرجوا في الأصل من رحم فكر عفلق البعثي ، ولتتحوّل تلك التوجّهات إلى خناجر تطعن في النسيج الوطني بعنفٍ أشدّ من زنازين النظام وجلاوزته ! وباختصارٍ وأمام ضخامة الأحداث وإفرازاتها وبحتمية مخرجاتها المتوقّعة ، ووسط العديد من الطروحات والمشاريع وحدية بعض غلاة القومويين وتشبثهم بمخرجات المراحل التي تتالت بعد قرارات عصبة الأمم وتقسيمات مابعد الحرب الأولى بخرائطها ، حيث اعتبرتها كحقٍّ الهي مكتسَب وقد تطوّب ، ورغم فشل سياسة الهيمنة بالقوة من جديد ! إلا أنّ مساعٍ – تبشيرية – محدثة أخذت تظهر للعلن من قبل منظّرين وبعنوان ٍ فضفاض يدعو إلى فضاءاتٍ ثقافية حوطتها مجدّداً بهوياتها القومية وغطّت بها شامل خطوط خرائطها لا القطرية بل جاوزتها إلى المفترضة عملياً إلى حدودٍ قارية . إنّ سعي الأغلبية – أية أغلبيةٍ – إلى تحويل ثقافتها كبديلٍ لوسائل هيمنة سابقة فشلت فيها ، وكتوريثٍ لممارسات نظمٍ طاغية ، لا بل واتخاذها ركيزة للبناء عليها ، ومن جديدٍ العمل على مأسسة محاورٍ لتغيير مسار تلك الثقافة من غايةٍ معرفية تنمّي الوعي وتفتح آفاق العقل البشري وبفضاءٍ إنساني شامل ، وبدل ذلك يسخّرها إلى أداة هيمنةٍ و تستخدم كسلاحٍ لفرض الإرادة بقناعٍ شفاف ومكشوف ، ولتبدو بمفرداتها وشروحاتها ، ومع كلّ – الدراسات والتوجّهات التي يؤطّرها منظّروها بآرائهم وتصوّراتهم كانتماءٍ حتمي ، وفي مسعىً واضحٍ يدركها أبسط متابعٍ ، بأنّ الغاية هي ذاتها وانْ تغيّر الأسلوب ، فهي تستهدف رغم ارتكازها على عوامل فشلٍ سابق والذي بدوره تراكم كنتاجٍ لموروث مورس أصلاً في بيئاتٍ تمّ تركيبها – ترتيبها وعلى قاعدة كان – ولم يزل – الغاية منها وكهدفٍ رئيس بقيت هي ذاتها : جينة الصراع البيني مع توفير بيئة وشروط احتدامها ، وبسبل كانت قد استهدفت قبلاً شعوباً عديدة وفي نطاقٍ جغرافي شاسع ، وللأسف فإنّ بعضاً من الأمم استلهمت تجارب مضطهديها في سعيٍ تعميمي وبالتوازي مع ذات النزعات التي تراكمت وكنتاجٍ لخبراتٍ تبشيرية تلتها الاحتلالات بجميع توصيفاتها ومسمّياتها ، وباختصارٍ : يمكننا استعراض نتائج مابعد الاحتلالات الاستعمارية المباشرة واضطرار الجيوش إلى المغادرة وترك المستعمرات ، ولكن ! وعلى هدي المثل الشعبي – خرج من الباب ليعود من الشباك – فوجد أو استبدل ذلك الاستعمار العسكري بصيغة واسلوب جديدين زنّرت بإطارين وتحت بندٍ عريض – قداسة الخارطة الجغرافية الشاملة لكلّ الفضاءات حتى المخيالية منها ، وفضفاضية المسمّيات وتفسيراتها كما في أبسط أنموذجين معاصرين مثل – الفرانكفونية – و – رابطة الدول المستقلة الروسية – هذه النماذج التي استحضرت في بعض من الذهنيات إرث ماضوي بنزعةٍ قومية تدثّرت بعباءة رسالةٍ سماوية في عصرها – تصوّراتهم تؤدّي إلى هكذا استنتاجٍ – ولتتماهى تلك التصوّرات في سعيٍ تمديدي بنطاقية مدٍّ ثقافي وبإدغام ارتبط بشكلٍ حيوي مع الدين ، رغم محاولة الدولتين الفارسية والتركية – كإنموذجين إسلاميتين – ومن خلال بسطٍ لمفهوم التلاقي الخاصوي بهما كقومية أولاً ومن ثم دينية إسلامية وايضاً بخاصيةٍ مذهبية ، وعلى تلك الأرضية ساهمتا وفي سعيٍ حثيث على استثمار ذلك التراكم الثقافي الذي تداخل حتى التبس على العامة وما لبثت أن انكشفت على حقيقتها كتتريكٍ أو تفريسٍ للشعوب الأخرى ، وذلك كأمرٍ بديهي لطبيعة الجينة التي بقيت ولم تزل مفعّلة خاصةً عند الفرس والترك ، إلا أنّ الخرائط التي تشكّلت لبعضٍ من الدول العربية بعد الحرب الكونية الأولى واتّباع سياسات القصّ واللصق فيها ، وإلحاق شعوبٍ وقومياتٍ اخرى بتلك الدول ، ولتضحى بؤراً خلافية تصاعدت وزادت في سعرات التنافر بينياً ، كنتاجٍ لما مارسته ولم تزل بعض من هذه الدول من سياساتٍ تدميرية ساهمت في عملية فكفكة بنية المجتمع وطنياً كما فعلته النظم المتعاقبة على سوريا والعراق وفي بعضٍ من دول المغرب العربي والسودان أيضاً ، تلك السياسات التي صرفت عليها جهوداً كثيرة ترافقت مع ممارسات ٍ ارتقت في بعض الجغرافيات إلى درجة العنصرية ، ورغم فشل تلك السياسات ، والتي كان يُفترض وكنتاجٍ لها من النظم والنخب القومية السائدة أن تطرح مفاهيم عصرية تتجاوز كلّ ادوات إنتاج الهيمنة لأية فئويةٍ او مكونٍ وتحت أية عنوان ، إلا أنّ بعضاً من التصوّرات لازالت تسابق الزمن بسعيها إلى إعادة إنتاجهم بسياقاتٍ تندمج في بوتقتهم وبإلغاءٍ جبري – من جديد – لأية إمكانيةٍ في إيجاد أو تطوير أية صيغةٍ من صيغ حقّ الإقرار أو الإنتماء الاختياري . إنّ الفضاء الثقافي الممارس منه – الفرانكفونية مثلاً والمطروحة كمشاريع لبعضٍ من النخب وكمظلةٍ تسعى وبكلّ بساطةٍ إلى إعادة إنتاج ذات الأداة المرفوضة من الأمم الأخرى ، لا بل أنّ بعضها هي بذاتها في حالة اشتباكٍ حقيقي من خلال مجموعاتٍ بشرية تنتمي لها في الأصل ، وهي تكافح وتسعى بكلّ إمكاناتها في التصدّي للهيمنة – الفارسية الثقافية – على عربستان مثلاً وفي مناطق أخرى أيضا ، كما ذات الاسلوب التركي وممارساته وذلك الابتهاج الكرنفالي في تعميم اللغة التركية بالمناطق التي احتلتها شمالي سوريا ، ولتنشغل كثيراً في غمرة – الانفعال – على مدّ – هيمنتها – تلك على الكُرد والأمازيغ والمكوّنات الأخرى . لقد أثبتت كلّ تجارب الهيمنة الثقافية جبراً فشلها الذريع ، لأنها ذات الثقافة التي ارتضت – خاصةً عند بعضٍ من المجموعات التي زعمت انتماءها لها – أن تصبح أداة قمع وإلغاء ثقافةٍ يغيب منها بعض من أدعياء التقية لها وبانتحالها يسعى إلى ممارسة الاضطهاد والعسف ، و أداة تنشيط جينات الصراع وتهييء سيناريوهات التقسيم ، لغة لثقافة انسانية راقية استغلّها بعضهم ولم يزل على الرغم من أنّ التاريخ يؤرشف في أحايين كثيرة بالضدّ من إرادة المستبدّين مهما حاولوا طمسها ، فالشعوب ، أية شعبٍ مهما بلغ تعداده وقدراته ولطالما استطاع التصدي لمستبدّيه وأفشل كلّ المشاريع التي استهدفته بالثبات والنضال السياسي السلمي أو العسكري ، فستبقى قادرة على أرضية الاحترام ردع الثقافات الإقصائية واللاغية للآخر ، وهنا سيكون من المفيد أن نشير إلى العكس من هكذا صراعاتٍ متناحرة ، وملاحظة أنّ غالبية المجموعات الصغيرة المظلومة هي من تطرح وبوعيٍ أكبر الحلول الوطنية الناجعة عكس الأغلبية التي ترى في أي منجزٍ أو منحٍ لحقوقٍ مشروعٍ للمكوّنات الأخرى على أنها مجرد سلبٍ أو اجتزاءٍ من حقٍّ الهيٍ يسعى الآخرون لسلبها منها ..