الورود المثلجة
بهجت شيخو
كانت حبيبات الثلج تتساقط من السَّماء على شكل خيوط بيضاء وبكلِّ هدوء, و الطرق الترابية المؤدّية لذاك المنزل القروي اكتسحها البياض رويداً رويداً ، ليغطّي لونه البني بياضٌ لم يحدث من قبل … بينما العصافير كانت على غير عادتها قد أوقفت زقزقتها، و بدأت تتطاير متعالية و منخفضة بسرعة بخلاف بقية الأيام لتجد لها أمكنة تأويها, و قد تلجأ إلى تلك الشقوق و الثقوب التي ولدت مع مرور الأيام في ذاك المنزل الطيني لتجد لها مأوىً مناسباً.
هو ما زال جالساً في تلك النافذة، يراقب ما يحدث من حوله مرَّة … و مرَّة أخرى يحرص على أن يلتهم ما تبقّى من صحنه من الزولبية ( نوع من الحلويات التقليدية الكُردية ) اللذيذة التي أعدّتها له عمته نازو بعد عودته من المدرسة.
ولكنّ تلك اللوحة التي بدأت تكتمل أمامه شيئاً فشيئاً و أصبح للسَّماء لونٌ خاصٌّ و لغة خاصة متأنية نوعاً ما, أخلد للهدوء ، و أمَّا الأرض فازدهت بحلتها الجديدة لتكون ما يشبه العروس في ليلة زفافها، وأصبح للمكان لون من ألوان السَّكينة و السَّرور الخافت.
و لكن وبعد الهيجان الداخلي و جملة التعابير التي كانت تراود الطفل ،حمو ، في تلك اللحظات و كذلك الدفء الذي غمره وشعوره بالفرحة وهو يشمُّ رائحة حلويات عمته نازو, لاح له من بعيد و من إحدى الطرق التي تتجه صوبهم شبح شخصين يمشيان باتجاه منزلهم, فأطلق إشارة فورية لكلّ أفراد العائلة التي كانت تحوم حول المدفأة، حيث أبلغهم بقدوم ضيفين يبدوان غريبين من خلال ملامحهما وهيئة مشيتهما، فهو يعرف الذين يزورونهم من أقربائهم و يتعرّف عليهم من مسافة حتى لو كانت بعيدة.
فردّت والدته فوراً : ربما هم يقصدون قرية أخرى يا بني! . فمنذا الذي يزورنا في هذا الوقت المثلج؟
لكنه لم يتحرَّك من مكانه في النافذة، و أخذه الفضول ليراقب الطريق، ويتعرّف على الضيفين القادمين من بعيد, و بعد قليلٍ من الوقت أعلن بأنَّ الشخصين قد قصدا منزلهم بالذات, فقفز الأب مسرعاً لاستقبالهم، و تبين أنهما رجل و امرأة, و هما لا يمتان للمنطقة بأي قرابة أو صلة, حيث تمَّ استقبالهم بسرور، كما استقبلت أفراد العائلة منذ لحظات هطولات الثلج المفعمة بالخير والبركة .
و بعد لحظات من جلوسهما و حيث لم يتسنَّ للرجل القادم أن يتدفـَّأ و يبعد عنه رجفة البرد و الخجل، فردَّد مخاطباً والد حمو: أنا من قمت بخطف هذه الفتاة، و لأسباب عديدة ذكرها بعجالة، و أنا كما أخبرني الآخرون عن شجاعتكم و شهامتكم فالتجأتُ إليكم و أنتم وحدكم تستطيعون حمايتي و حماية الفتاة التي عقدت عليها قراني عند أحد الملالي و هي الآن زوجتي على سنة الله و رسوله.
فما كان من والد حمو إلا أن أطلق إعلانه بالترحيب و قال: أنتما بحمايتي و حماية الله، وأنا منذ اللحظة والدكما وأنتما في بيتكما, و دبـَّت الحركة في المنزل حيث استعدّت بقية أفراد العائلة لحمل السلاح الكامل، و أطلقت حنجرة العمة نازو زغرودة طويلة مع هذا الجو البارد ؛ ليحلّ في المكان الدفء و السَّرور.
أما حمو ما عاد يحتلّ النافذة كعادته ، و إنـَّما أخذه السّرور و البهجة و ذلك لما حلّ المكان وقد تحوَّل البيت إلى ساحة للفرح , واختلط لونا الثلج و العروس، و رقة صوت زغرودة عمته ملأت المنزل الطيني وصار عرساً في وسط هذا العالم المتراكم البعيد، و لم يستطع التمييز بين هذين الحدثين إلا أنهما لا بدَّ و قد وهبا له عبقاً من الفرح و المسرات لم يعتد عليها من قبل .
و لكنه كما يقال أحياناً الفرحة لم تدم ، فقد أمر والده أمه بتقديم هدية العروس، كما هي العادات ،و لكن هذه المسكينة لم تكن تملك من الحلي و الذهب شيئاً، و تكاد يدها تكون خالية ما عدا خاتم فضي أهدتها لها أمُّها كي لا تفزع من نومها – كما علّمها الشيخ – فنزعت الخاتم بكلِّ برودة و لكن الوالد لم يرضَ بالفضة و إنـَّما أخذه الطموح لأكثر من ذلك وخاصَّة أنه يعرف عنه السَّخاء و الكرم و الشجاعة و أراد أن يثبت للعروسين خصاله و قوَّة كلامه, فنهض مصطحباً معه أم حمو إلى غرفتهما الخاصة و قال لها: هاتي تلك العباءة التي تزيّنت بها يوم زفافك لنهديها للعروسة.
سمعها حمو الذي كان واقفاً بجانب الباب الخشبي من خارج الغرفة، و هو عادة لا يحبذ الدخول لأنـَّه لا يريد أن يشاهد ما الذي يجري في الداخل، كثيراً ما يتحوّل المشهد الى مأساة حقيقية و تكون أمه عرضة للضرب و الإهانات.
طلب والد حمو وقع على قلب أمِّ حمو كالصَّاعقة التي فطرت قلبها … فكيف لها أن تفرّط بأهمِّ ذكرى لها في يوم عرسها … تأخّرت بعض الشيء لعلها تستطيع إقناعه بشيء آخر, و لكنه أصرَّ على أن تهدي لها العباءة.
فرفضت بقوَّة و حاولت إقناعه على أنّ هذه العباءة المـُطرَّزة هي ذكرى زواجهما، و لا يجب أن يُفرطا بها كأي سلعة رخيصة، و هناك خيارات أخرى يمكن أن يكون للصّباح حلول أخرى.
و ها هو الطفل حمو يتابع النقاش و يتمنـَّى أن يحلّ الخلاف بالطرق السلمية و ألا تتعرَّض والدته للضرب ككلِّ مرَّة ، و تمسح دموعها بأطراف ثوبها المُهترئ و ألا تنام ليلة مأساوية أخرى و قد تنساها مع طلوع الشمس .
و بالفعل والدته أرادت أن تدافع عن خصوصيتها وعدم إهداء العباءة لتلك الفتاة، و لكنها لم تفلح بذلك و بدأت دموعها مرَّة أخرى تتساقط كما يسقط الثلج على الأرض الطيبة حزناً على تلك الذكرى الملتفة بين بخجك ( الصرة ) و المخبّأة منذ أكثر من عشر سنوات، و بعد لحظات أسعد الأب قلب الضيفة ليلفّها بالعباءة في حين أخفى الفرح قلب سيدة هطلت دموعها بدلاً عن الثلج. .