ب ي د وقسد والبوصلة المفقودة
فؤاد عليكو
لم يشهد التاريخ حركةً سياسية تعيش ضمن متناقضاتٍ صارخة كحزب الاتحاد الديمقراطي pyd وجناحه العسكري قوات سوريا الديمقراطية ” قسد” بين دول متصارعة فيما بينها على سوريا، ولكلٍّ من هذه الدول رؤى وتوجهات وأهداف مختلفة كلياً عن الأخرى.
فمن جهة يتعامل pyd مع روسيا والنظام وإيران في حلب والشهبا وتل رفعت وبعض المناطق في محافظة الحسكة، وينسّق معهم عسكرياً وحتى إدارياً في البعض منها، ومن الجهة الأخرى ينسّق عسكرياً مع أمريكا والتحالف الدولي في دير الزور والرقة وبعض مناطق الحسكة، ويتلقّى الدعم العسكري المطلوب منهم، ولا أحد يعرف بأنه ينسّق مع منْ في منطقة كوباني ومنبج حتى الآن (أمريكا أم روسيا ام الاثنان معاً) ، وكذلك يحتفلون بيوم الثورة السورية في الرقة، ويعتبرون أنفسهم بأنهم جزء من الثورة السورية وضد النظام، بينما يعادون من طرفٍ آخر الحامل السياسي للثورة السورية المتمثّل بالائتلاف، ويدخلون معه في صراعٍ سياسي و عسكري بين فترةٍ وأخرى، وفي نفس الوقت يعربون عن استعدادهم للحوار معه خدمةً للثورة السورية، حسب ادّعائهم !! ، كذلك يعتبرون تركيا دولةً عدوةً للكُرد، ويسخّرون إمبراطورية إعلامهم ليل- نهار في الترويج لذلك، ويطلب من الآخرين اتخاذ مواقف عدائية منها أسوةً بها، وبنفس الوقت يبعثون برسائل تطمينية لتركيا بالحفاظ على أمن حدودها، ويعربون عن استعدادهم للحوار معها بغية الوصول إلى تفاهمات مشتركة، إضافةً أنّ توأمهم السياسي في تركيا (حزب الشعوب الديمقراطية hdp) موجود في البرلمان التركي ب 67 نائباً ويدير أكثر من 80 بلدية في المنطقة الكُردية، وقد رشّح رئيس حزبhdp “صلاح الدين دمرتاش” لرئاسة الجمهورية التركية، ولا يتجرّأ هذا الحزب في إبداء أيّ تعاطفٍ نظري أو عملي معهم ، حتى الخروج بمظاهرة واحدة تأييداً لهم أو تضامناً مع قائدهم العام المعتقل في ايمرالي، بينما يقوم pyd بالمهمة بدلاً عنهم في سوريا، خاصةً في المدن المتاخمة للحدود التركية، كما يدّعي بأنه تنظيم أممي ويدعو إلى أخوة الشعوب والأمة الديمقراطية و المجتمع الايكولوجي وكونفدرالية الشرق الأوسط، ويؤكّد على أنّ الحالة القومية قد تجاوزها الزمن، لذلك يرفض أن يصنّف كتنظيمٍ كُردي، بينما يطلب من الأمم المتحدة والمجتمع الدولي إشراكه في مفاوضات جنيف كممثل للكُرد، وفي نفس الوقت ينسف كلّ الاتفاقات الموقّعة مع المجلس الوطني والساعية إلى توحيد الرؤى والموقف الكُردي محلياً وإقليمياً ودولياً، بينما يبدي pyd استعداده للتفاهم مع أيّ طرفٍ غير كُردي، ويقدّم المرونة اللازمة من أجل ذلك.
وعلى الصعيد العملي، في سياق تطبيق مشروعه في الأمة الديمقراطية فلا تخلو مؤسسة من مؤسسات إدارته من إرفاق عبارة ” الديمقراطية ” على لوحة اسم المؤسسة، بينما في الواقع العملي يمارس أسوأ ديكتاتورية من قمع الحريات للمخالفين لرؤيتها وزجّهم في السجون، إضافةً لممارسات جناحه الشبابي (جوانين شورَشْ كَر/ ciwanên şoreşger) من ترهيبٍ واختطافٍ للشباب والأطفال، ثم يتبرّؤون من ممارساتهم إعلامياً، بينما بالمقابل يحضرون مؤتمراتهم ويمجّدون( نضالهم المشرّف).
كلّ هذه المتناقضات الصارخة يعيشه ويمارسه pyd حتى الآن . والسؤال المطروح الآن لدى المحلّلين السياسيين : هل اللعب على هذه المتناقضات براعة سياسية وبراغماتية ناجحة في التعامل مع هذه الأوضاع الإقليميةو الدولية المعقدة؟ أم أنّ واقعاً سياسياً وعسكرياً فُرض عليهم، ولا يستطيعون الخروج منه، وبالتالي يعملون جاهدين على إرضاء الجميع، وذلك بتقديم خدماته العسكرية لكلّ مَن يحتاج إليها،حسب الظرف والمنطقة الجغرافية ، وبالتالي يعمل كتنظيم فاقدٍ لبوصلة عمله ولا يعرف أين يقف ؟. ومع من يقف؟. وماذا يريد؟.
لقد تمّ استثمار هذه القوة الكبيرة بشكلٍ فعّال من قبل روسيا والنظام في مواجهة تمدد الفصائل العسكرية للمعارضة في منطقة الجزيرة وحلب قبل 2015، ثم استغنى عنهم في التفاهم الذي تمّ بين روسيا و تركيا، فكانت عفرين الضريبة وآلاف الضحايا وتهجير عشرات الآلاف في 2018، وتكرّر المشهد نفسه في سرى كانية( رأس العين) و كرى سبي (تل أبيض) في2019 حين تخلّت عنهم أمريكا نتيجة التفاهمات بين أمريكا وتركيا أيضاُ، و كان الأمريكيون أكثر صراحةً ووضوحاً وعلى لسان رئيسهم السابق ترامب، حيث قال ، بأننا نستخدمهم بأموالنا كجسمٍ وظيفي لا أكثر في محاربة داعش، ولن نفرّط بتحالفنا مع حليفنا الاستراتيجي والعضو في حلف الناتو تركيا، و وصفهم بأنهم لايقلّون سوءاً عن داعش.
واليوم يتكرّر المشهد من حيث التهديد التركي بالتدخل المباشر في مناطق أخرى من الشمال السوري، مستغلاً الظروف الدولية الملائمة لتركيا بعد حرب أوكرانيا بين روسيا والغرب وبروز أهمية تركيا من جديد من قبل حلف الناتو، من حيث الإمكانات العسكرية والجغرافيا السياسية، لذلك تمّت تسوية خلافاتها مع أمريكا خاصةً في اجتماع الناتو في إسبانيا الشهر المنصرم، إضافةً إلى لعبها دور الوسيط بين الروس والأوكرانيين ولضرورة أن تبقى الخيوط الروسية غير مقطوعة مع تركيا، نظراً لحاجة الروس لذلك سياسياً واقتصادياً.
وعلى ضوء هذه التهديدات التركية الجدية، فقد تقدّمت كلّ من أمريكا وروسيا برؤيتهما لقسد من أجل تجنب التدخل التركي الجديد، حيث تضمّنت الرؤية الأمريكية إبعاد كوادر pkk من شرق الفرات، وقطع العلاقة معها ، وبناء علاقات تفاهم مع المجلس الوطني الكُردي ومكونات المنطقة لبناء إدارةٍ شاملة ورشيدة، إضافةً إلى بناء علاقات طبيعية مع تركيا، وخاصةً في الجانب الاقتصادي، لتتمكّن أمريكا من التعامل بإيجابية مع إدارة المنطقة، والإهتمام بها اقتصادياً وسياسياً بغية توفير عوامل الأمن و الاستقرار لعودة جميع أبناء المنطقة المهجّرين، وخاصةً المتواجدين في إقليم كُردستان وتركيا ولبنان.
اما العرض الروسي فقد تضمّن العودة للنظام والتفاهم معه عسكرياً وإدارياً ، وهذا يعني بكلّ بساطةٍ تسليم المنطقة للنظام دون شروط “وكأنك يازيد ما غزيت “.
وبذلك تذهب دماء آلاف الشهداء و الجرحى والمعوّقين من الشباب قرباناً لسيطرة النظام على المنطقة، ومن المؤسف القول.. فإنّ إدارة pyd وقسد اختاروا الطرح الروسي نزولاً عند رغبة و أوامر pkk بدلاً من الطرح الأمريكي المتقدّم، الذي يحقّق للكُرد ولأبناء المنطقة مكاسب سياسية واقتصادية لا تعوّض، وهذا ما يعيدالذاكرة بنا أيضاً إلى عام 2015 حين طلب رئيس وزراء تركيا الأسبق داوود أوغلو من حزب الشعوب الديمقراطية المشاركة في الحكم وتنفيذ الاتفاقية الموقّعة بين الطرفين 2013 لكن بأوامر من pkk تمّ رفض العرض، ووقفوا إلى جانب حزبي chp و mhp في إسقاط حكومة أوغلو والذهاب إلى انتخابات جديدة وخسروا 25 مقعداً، وهكذا أضاعوا فرصةً تاريخيةً للكُرد في تركيا بسبب ذلك الموقف الخاطىء .
يبقى السؤال مطروحاً : كيف تتصرّف أمريكا مع قسد فيما لو سلّمت نفسها وأسلحتها الأمريكية للنظام؟.
بالتاكيد لن تبقى متفرّجة وخاصةً إنّ التعامل، مع روسيا في سوريا، سوف يختلف جذرياً بعد الحرب على أوكرانيا.
هذا ما سيكشفه القادم من الايام.