بعد المستجدات الخطيرة في سوريا.. ماذا عن العراق؟
تسببت المستجدات الاخيرة في سوريا، بعد احتلال مساحات واسعة من حلب وادلب من من قبل ما يسمى بـ(هيئة تحرير الشام)، وانسحاب الجيش السوري منها، وظهور الصورة الحقيقية الهشة للمنظومة العسكرية والامنية السورية، بخلق أزمة سياسية وأمنية، أثارت العديد من المخاوف لدى الحكومة العراقية.
هذه المخاوف تجسدت من خلال التصريحات السياسية والعسكرية التي اطلقها مسؤولون عراقيون من الحكومة الاتحادية والقوات المسلحة، يحذرون من خلالها التنظيمات المسلحة من تجاوز الحدود العراقية، ويؤكدون جاهزية الجيش العراقي لصد اية هجمات من الممكن ان تفكر بها هذه الاطراف.
هذه المستجدات اعادت الى الاذهان، ما حصل قبل اكثر من عشرة اعوام، من اختراق للحدود العراقية عن طريق نقطة القائم الحدودية من قبل تنظيم داعش الارهابي، واحتلال مساحات شاسعة من العراق والتنصل عن التحذيرات التي أوصلها الرئيس مسعود بارزاني في تلك الفترة لرئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، على الرغم من وجود معطيات تختلف عما كان موجود في تلك الفترة، ولكن ذلك لا يمنع من البوح بالحقيقة المرة، بأن العراق يمر فعلاً بأزمات سياسية حقيقية وعميقة من الممكن أن يتأثر بما يحدث في سوريا.
تاريخياً، يذكر بعض شهود العيان، من المقربين من رئيس النظام العراقي السابق صدام حسين، بأن الاخير كان يؤكد دوماً على ان استقرار العراق مع سوريا والكويت، هو بالاندماج والغاء الحدود وصهر الدولتين مع العراق، والا فان العراق سيبقى في حالة من عدم الاستقرار الى الابد.
وبالتركيز على سوريا، فقد اريد لها ان تكون مملكة هاشمية، ولم يتحقق ذلك وكانت من نصيب الفرنسيين بعد الحرب العالمية الاولى، لتتحول خطة المملكة الهاشمية الى العراق والاردن، وتبقى سوريا هي احدى اكبر المشاكل الامنية لكل من العراق والاردن ولبنان، منذ الاتفاق على آخر ترسيم للحدود، الى يومنا هذا.
كما اثبتت اغلب التجارب التاريخية لدول المنطقة، بأن التاثيرات التي تعاني منها هذه الدول بسبب سوريا، ليست الا تصديراً للازمات التي تتعرض لها، من خلال مشاكل سياسية وانقلابات عسكرية منذ تأسيس الجمهورية السورية الاولى في عام 1932، وانتهاء بالانقلاب الاخير الذي قاده الرئيس السابق حافظ الاسد عندما كان وزيراً للدفاع في عام 1970 ضد نظام أمين الحافظ، والتي اسماها بالحركة التصحيحية، وكانت نتيجتها، تكريساً لحكم الحزب الواحد والعائلة الواحدة، لحين وفاته في عام 2000، وتحول الحكم لابنه بشار الاسد، والذي مازال مستمراً في رئاسته لجمهورية هشة فقدت سيطرتها على جزء كبير من اراضيها وباتت مقسمة بين اكثر من دولة، مع استغلال واستخدام الميليشيات غير القانونية لتنفيذ اجندات هذه الدول.
ول ايمكن لمن يراجع التاريخ السياسي لهذه المنطقة، ان يشخص نقاطاً ايجابية او مشرقة في تاريخ العلاقات العراقية السورية، (على الرغم من ان النظامين كانا متفقين دوماً على كل ما يخص المسألة الكوردية في الدولتين)، ولكن التراكمات التاريخية كانت تتحكم دوماً بهذه العلاقات، منذ العداء التاريخي بين الخلافتين الراشدية والاموية، وصولاً الى المراحل التاريخية المختلفة لاستقلال الدولتين، ويتضح للمتابع بان أكثر الازمات التي تعرض لها العراق، كان لسوريا دور فعال فيها، والعكس صحيح تماماً، حيث تحول الجانبان الى حاضنتين للحركات السياسية المعارضة، ناهيكم عن العشرات من عمليات الاغتيال التي نفذتها اجهزة المخابرات للدولتين ضد شخصيات سياسية، وصلت لمستوى محاولات لاغتيال كل من الاسد وصدام.
وفي هذا الاطار ايضاً، لا يمكن تجاهل دور الجغرافية في التحكم بالعلاقة بين الجانبين، باستغلال عامل تداخل الحدود وقرب المسافات في النقاط الحدودية بين الجانبين، والتداخل البشري بانقسام القبائل والعشائر (كوردية كانت ام عربية)، بين دولتي العراق وسوريا، حيث يبلغ طول الشريط الحدودي بينهما 610 كيلومترات، منها 285 كيلومتراً ضمن محافظة نينوى، و325 ضمن الانبار، هذا بالاضافة الى وجود 211 مخفراً وملاحق حدودية، بالاضافة الى ستة معابر حدودية، من ضمنها معبر فيشخابور ضمن محافظة دهوك، والذي تشرف عليه حكومة اقليم كوردستان، واستخدم بالدرجة الاساس لأغراض انسانية منذ اولى الهجمات للتنظيمات الارهابية على مناطق من غرب كوردستان، وفتح ابواب الاقليم أمام موجات اللجوء للكورد السوريين الى الاقليم، ويقابله في الجانب الاخر معبر سيمالكا الواقع ضمن محافظة الحسكة شمالي شرق سوريا.
وبهذا الملخص يتبين بأن هذا الترسيم الحدودي، ولد لدى الجانبين هوس التوسع في الفترة الماضية، على الرغم من سيطرة حزب البعث على الدولتين ولكن بايديولوجيتين مختلفتين، وان هذا الهوس ومحاولات كل من النظامين طمس الاخر، ساهم في المزيد من القطيعة، وانتهت بافساد خطة الوحدة التي اتفق عليها البكر والاسد في عام 1978 والتي سميت بـ(ميثاق العمل القومي المشترك السوري العراقي)، والذي كان سيحول الدولتين الى كيان واحد لحزب واحد، وهذا ما لم يعجب صدام والذي شعر بأن ايامه ستكون معدودة بتنفيذ بنود هذا الميثاق، لذلك سارع في افشاله والانسحاب منه بعد اقالة احمد حسن البكر، لتبدأ صفحة جديدة في خلافات وصلت لكسر العظم بين (بعثي الدولتين)، وخصوصاً في فترة الحرب العراقية الايرانية من 1980 الى 1988.
ومع ان بوادر القطيعة انتهت بعد تسلم بشار لحكم سوريا، الا انها عادت لتتوتر من جديد بعد سقوط نظام صدام، وذلك بسبب دعم نظام الاسد لتنظيم القاعدة، وفتح الحدود على مصارعها امام هذه التنظيمات لتنفيذ عمليات ارهابية ضد مواطني العراق، لتكون سوريا مرة اخرى، ملاذاً لمن يعارض حكم ما بعد صدام، بعد تدفق الالاف من العراقيين اليها، وهذا ما تسبب بأزمة كبيرة بين الجانبين، سرعان ما ساهمت ايران (والمتحكمة بنظام الاسد)، الى اخمادها، وتحديداً بعد ان انقلبت القاعدة ضد النظام السوري واحتلت مساحات واسعة من اراضي هذه الدولة، لتكون النتيجة، هجرة عكسية لالاف من السوريين الى العراق (وبضمنها اقليم كوردستان).
ومن خلال ما ذكر، وبالعودة الى الواقع الذي يعيشه العراق والمشاكل التي يعاني منها، تتضح لنا الصورة الحقيقية القاتمة لهذا البلد، والتي تؤكد بأنه في خطر كبير جداً، فالحدود مازالت غير مؤمنة بالدرجة التي تؤهل العراق لأن يكون آمناً، وان المنظومة الدفاعية لم تتعاف من الصدمة التي تعرضت لها من تنظيم داعش الارهابي.
كما ان وجود ميليشيات تتحكم بالواقع الامني والعسكري وتعتبر نفسها اطول واعلى يداً من الحكومة سيزيد من فرصة اختراق الداخل العراقي بكل سهولة، لان هذه الميليشيات (العراقية منها تحديداً)، تورطت في العديد من الصراعات الاقليمية والدولية نتيجة لحرية الحركة بين حدود الدولتين، وباستغلال ذات العوامل الجغرافية التي تؤهلها لحرية الحركة نحو الحدود اللبنانية، توفرت لها العديد من تسهيلات كثيرة لتجارة المخدرات والسلاح، باستغلال الفراغات الامنية وعدم وجود سيطرة حقيقية للقوات المسلحة العراقية على هذه الفراغات، كل ذلك سيجعلها هدفاً سهلاً للاستهداف العسكري من قبل الولايات المتحدة الاميركية وحلفائها.
وبعدم تناسي حالة التشتت والتشظي الحكومي والسياسي في العراق، وعدم وجود قرار عراقي حقيقي وتوسع هوة الخلافات السياسية، وابتعاد العراق عن تنفيذ الدستور واستمرار الفساد الاداري والسياسي، فان ما يحصل في سوريا مرتبط وبنسبة كبيرة بالوضع العراقي، لأن المصدر المتحكم بتسيير القرار الميليشياوي هو واحد، وفي ظل محاولات هذا المصدر بالابتعاد عن الهيمنة السياسية بالتدريج، ووجود شبه اتفاق دولي من قبل الدول العظمى على الوضع الحالي الذي نراه الان، يبرر هستيريا التصريحات التي يطلقها المسؤولين العراقيين، بين تطمين قلق، ودفاع مستميت عن نظام آيل للسقوط، ووجود ضبابية سياسية، وانعدام كامل لوحدة القرار السياسي العراقي.
ان ما يحصل في سوريا، يوجه رسالة واضحة للحكومة العراقية، بأن تتدارك وبأقصى سرعة كل الخلافات، وتحل ما تستطيع حله من مشاكل داخلية، تؤهلها لاكتساب قوة حكومية ستساهم في تقوية الحدود العراقية وابعاد العراق عن كل الصراعات والحروب الحالية، وهذا لن يتم الا بقرار شجاع وجريء من القائد العام للقوات المسلحة، باقصاء وابعاد الميليشيات عن الواقع العسكري العراقي، وتقوية المنظومة الدفاعية والأمنية العراقية بكل اصنافها المعترف بها في الدستور، والا، فان العواقب ستكون خطيرة.
المقالة تعبر عن رأي الكاتب ولا تعبر بالضرورة عن رأي يكيتي ميديا
Rudaw