
بين الاستبداديين: السوريون بين مطرقة الماضي وسندان الحاضر
مزكين يوسف – رئيسة مجلس إيزيدييي سوريا
شهدت سوريا في ديسمبر 2024 نقطة تحوّل محورية مع سقوط النظام الذي حكم البلاد لأكثر من نصف قرن. لحظة انتظرها السوريون بكلّ مكوناتهم، على أمل أن تكون بداية لبناء دولة ديمقراطية عادلة، تنهي عقوداً من القمع والإقصاء. إلا أنّ ما أعقب هذه اللحظة لم يكن على قدر آمال السوريين، بل جاء مخيباً للآمال، مع بروز قوى تحاول احتكار السلطة مجدداً، ولكن هذه المرة بلبوس ديني لا يقلّ تسلطاً عن سابقه.
الإعلان الدستوري الأخير، الذي صدر من قبل هيئة تحرير الشام، جاء ليكرّس رؤية أحادية للدولة، تنحاز لطائفة دون غيرها، وتفرض أيديولوجيا دينية على مجتمع متنوع ومعقّد مثل المجتمع السوري. اشترط أن يكون دين رئيس الدولة الإسلام، وجعل الفقه الإسلامي المصدر الأساسي للتشريع، ليست مجرد مواد قانونية، بل تعني فعلياً إقصاء ملايين السوريين غير المسلمين من المشاركة في صياغة مستقبل بلدهم، وعلى رأسهم المسيحيون، الإيزيديون، واللادينيون، فضلاً عن تجاهل حقوق القوميات غير العربية كالكَرد والسريان والآشوريين والأرمن.
إن ما جاء في هذا الإعلان لا يعبّر عن طموحات السوريين الذين ثاروا من أجل دولةٍ تحترم التعدد وتضمن المساواة، بل هو استمرار لنهج الإقصاء الذي ثاروا عليه. الأخطر من ذلك أنّ الإعلان ترافق مع تصعيد طائفي خطير، كان ضحيته مدنيين من الطائفة العلوية، في مشهدٌ يعكس تحولًا مأساويًا من الثورة إلى الانتقام، ومن النضال إلى الاستفراد والعنف.
الإيزيديون… معاناة ممتدة وحقوق مغيّبة
من أكثر المكونات التي تعرّضت للإقصاء والتهميش والاضطهاد عبر التاريخ هم الإيزيديون، الذين عانوا من المجازر والانتهاكات في كلٍّ من سوريا والعراق وتركيا. تعرّض هذا المكون لمذابح جماعية، ، وتمّ استعباد فتياته وسُبيت نساؤه في أسواق النخاسة ،على خلفيته الدينية، في انتهاك فجٍّ لكلّ القيم الإنسانية. وتاريخياً، لم يكن للإيزيديين أي اعتراف رسمي بهم في الدساتير أو القوانين، وهو ما ساهم في تهميشهم وتقلّص وجودهم على أرضهم التاريخية.
إنّ استمرار هذا النهج في الدستور الجديد يعني إعادة إنتاج سياسات الإقصاء ذاتها. لذا فإنّ أي دستور سوري قادم يجب أن يتضمّن اعترافاً صريحاً بالإيزيديين كمكون سوري أصيل، ويكفل لهم حقوقهم الدينية والثقافية والاجتماعية، بما في ذلك الأحوال الشخصية، والتمثيل السياسي، والمشاركة الفاعلة في الحياة العامة. واعتماد نظام كوتا يضمن تمثيلهم داخل مؤسسات الدولة.
المرأة السورية… قلب الثورة ونبضها المستمر
لا يمكن الحديث عن مستقبل سوريا دون الاعتراف بالدور الجوهري الذي لعبته المرأة السورية في مسيرة الثورة والنضال من أجل الحرية والكرامة. فقد كانت المرأة في الصفوف الأولى: ناشطة، إعلامية، معتقلة، أم شهيد، ولاجئة ومهجّرة. تحمّلت أعباء الحرب، وقادت العمل المدني، وأسّست مبادرات مجتمعية في أصعب الظروف.
ورغم ذلك، ما زالت النساء يُقصين من مراكز صنع القرار، ويُحرمن من التمثيل العادل في الحياة السياسية. لذا لا بدّ أن يقرّ الدستور السوري القادم بحقوق النساء الكاملة، في المساواة، والحماية من العنف، والتمثيل السياسي، وتمكينهن في جميع المجالات.
مستقبل سوريا لن يُبنى إلا بالشراكة العادلة بين النساء والرجال، ولا عدالة من دون إنصاف نصف المجتمع.
لا دولة بلا عدالة، ولا مستقبل بلا شراكة
إنّ منح الرئيس الانتقالي صلاحيات واسعة، تشمل تشكيل المحكمة الدستورية وتعيين ثلث أعضاء مجلس الشعب، لا يشير إلى مسار ديمقراطي، بل يكرّس السلطة الفردية، ويعيد إنتاج نموذج الحكم الاستبدادي تحت مسميات جديدة. ولا يمكن فصل هذا التوجه عن الجرائم الطائفية التي سبقت الإعلان، والتي طالت مدنيين من مكونات بعينها، وعلى رأسها الطائفة العلوية، في تصعيد خطير لا يخدم سوى مشروع الحرب والانقسام.
إنّ سوريا التي نحلم بها لا تُبنى بالإقصاء ولا بالعنف، بل بالحوار والمواطنة والعدالة. يجب أن ينبثق الدستور القادم عن عملية تشاركية حقيقية تشمل جميع السوريين، دون تمييز أو تفوق طائفة أو دين أو قومية على أخرى.
إنّ أيّ محاولةٍ لبناء سوريا جديدة يجب أن تنطلق من قاعدة الشراكة لا الاستفراد، ومن العدالة لا الانتقام، ومن المساواة لا التمييز.
ما قدمه السوريون من تضحيات خلال أربعة عشر عاماً لم يكن من أجل استبدال سلطة استبدادية بأخرى دينية مغلقة، بل من أجل مستقبلٍ يليق بتضحيات جميع السوريين، دون استثناء أو تهميش.
إننا أمام لحظة مفصلية، فإما أن نعيد إنتاج المأساة بشكلٍ آخر، أو نمضي نحو تأسيس عقد اجتماعي جديد ينقذ سوريا من ماضيها، ويؤسّس لدولة مواطنة حقيقية، يعيش فيها الجميع بكرامة وأمان.
دعوة إلى عقد وطني جامع
إنّ الإعلان الدستوري بصيغته الحالية مرفوض رفضاً قاطعاً، لأنه يشكّل انحرافاً خطيراً عن مسار بناء الدولة العلمانية الديمقراطية.
لذلك وللأسباب التي تقدّم ذكرها على كافة القوى الوطنية والديمقراطية، ومنظمات المجتمع المدني، الوقوف في وجه هذا التوجّه الأحادي، والدفع باتجاه عقد مؤتمر وطني جامع يفضي إلى دستور حضاري، يعبّر عن طموحات جميع السوريين، ويضمن العدالة والمساواة والكرامة لكلّ مَن عاش ويعيش على هذه الأرض.
المقالة منشورة في جريدة يكيتي ميديا العدد 331