آراء

ترامب والسياسة الخارجية: بحثاً عن رؤية جديدة

رضوان زيادة
مُنيت المحافظية الجديدة بنكسة كبيرة بعد حرب العراق وفشلها الذريع، لذلك اتخذ الرئيس الأميركي دونالد ترامب موقفاً معارضاً للحرب واتخذ موقفاً متشدداً تجاه كل شخص ارتبط اسمه بالحرب، ليس من منطلق أخلاقي أو قيمي ولكن من منطلق رفض الفشل والأمل بالنجاح في رحلته الرئاسية الجديدة.
ولذلك يعاد التفكير اليوم في معنى المحافظية ومنطلقاتها ومراجعة نتائجها نحو سياسة أكثر توائمية وأقل راديكالية، ورداً على ذلك طبق الرئيس أوباما سياسة شبه انعزالية كنقيض لإرث بوش بعد حرب العراق.
لكن مبدأ حق التدخل في شكل منفرد يعود اليوم مع ترامب لكن من دون رؤية محافظية أو حتى رؤية تدخلية كما ميزت سنوات بوش الأخيرة في التدخل عبر العالم من أجل نشر الديموقراطية.
إن الدور القيادي الذي تحاول الولايات المتحدة الاضطلاع به يعود في شكلٍ كبير إلى غياب التأثير الجماهيري داخل الولايات المتحدة في قرار السياسة الخارجية الأميركية، بل إن الإدارات الأميركية المتعاقبة كانت تنجح باستمرار في جعل مجتمعها يسير خلف سياستها القيادية عبر الاستخدام الأمثل للإعلام ولوسائط التأثير الجماهيري.
وهذا بالضبط يشكل محور نظرية كيسنجر الذي يعتبر أن السياسة الخارجية يجب أن تبقى محصورة في العاصمة واشنطن لأنه بحكم الخلاف العرقي والطائفي والمذهبي والجنسي الكبير بين مواطني الولايات المتحدة، فإن نزاعهم الداخلي حول السياسة الخارجية ومستقبلها سوف يقصم عرى الروابط الاتحادية بين الولايات أو داخل الجماعات المشكلة لهذه التعدديات الكثيفة داخل الولاية ذاتها، فالانقسام على السياسة الخارجية سيخلق تفككاً داخلياً بكل تأكيد، ولذلك يبدو من الأفضل لأميركا أن تبقى سياستها الخارجية محصورة ضمن ما يسمى «مجتمع السياسة الخارجية» الذي ينحصر وجوده داخل العاصمة الأميركية.
فإذا أراد أحد الرؤساء تعبئة الموارد الهائلة للدخول في حرب شعواء ضد خصم سياسي دولي، فإن ذلك يتطلب تخطي الحواجز الانعزالية التي يمتاز بها المواطن الأميركي. إذ هو يتساءل لماذا يتوجب على جنود أميركيين بذل أرواحهم في بلاد نائية لا يعرف أغلب المواطنين عنها شيئاً كثيراً. بل إنهم يجهلون غالباً أين تقع.
ومهمة الإقناع الصعبة هذه يمكن التغلب عليها فقط من خلال تبسيطات فظة، من مثل ضرورة التصدي لعدو خطر شرير صعب المراس، وهو ما حدث من خلال شيطنة صدام حسين، وهو ما دفع بعض المحللين إلى القول أن البناء النظري لعلم العلاقات الدولية في الولايات المتحدة يقوم غالباً على مفهوم «تقديس السهولة» وذلك عندما تظهر النظريات هذه البنية المانوية للأقطاب المتنافرة، وعندما تجد مثل هذه النظريات هذا التأييد في أوساط الصفوة السياسية كما عبر هارلك موللر.
بيد أن نفوذ المجتمعات يجب أن لا ينحصر فقط في تأثيرها في سياسة حكومتها الخارجية فقط ، بل لا بد أن تتضافر معاً متجاوزة الدولة ومصالحها الخاصة وهو ما يطلق عليه البعض نهاية لدولة القوة وولادة ما يسمى الدولة التجارية، التي تتميز من خلال انفتاح الحكومة على الاقتصاد والاشتراك مع الجهات ذات الاهتمام وفي مقدمها الاقتصاد في تشكيل أهداف سياسة خارجية تسعى إلى أولوية واضحة للعلاقات الاقتصادية في مقابل مسألتي القوة والأمن، ومن خلال السعي نحو إنفاق في الحدود الدنيا على التسلح. فالدولة التجارية تتيح نشوء ما يسمى «بعالم المجتمع»، لكن ترامب يريد اليوم أن يلغي الكثير من اتفاقات التجارة الحرة ويعيد فرض التعرفة مع المكسيك وكندا، وبالوقت نفسه يشجع على الحرب ضد «داعش» وغيره من التنظيمات الإرهابية، وكأنه شبه تناقض بنيوي بين فكرة الانعزالية والتدخلية.
ربما تكــون المنظمــــات غير الحكومية العابرة للقوميـــات هي العلامـــات الأكثر جلاء لهذا التطـــور وهــــذا ما يحـــرّض على بروز القيم الإنسانية الموحدة والمشتركة، على رأسها الديموقراطية، إذ لم يعد يوجد بلد لا يُحكم ديموقراطياً يخلو من منشقين أو منظمات أو جماعات تطالب بالديموقراطية، والاتصالات العابرة للقوميات بوسائل الاتصال الحديثة تشجع هؤلاء على إجبار بلدانهم على دخول «العصر الديموقراطي». إن انتشار الديموقراطية اليوم هو من أهم علامات التقارب بين الثقافات والفرص أمام حوار عابر للثقافات إن لم يكن أهمها إطلاقاً. لكن ترامب لا يبدو أنه يكترث لفكرة نشر الديموقراطية ، بل ربما يحدّ من الكثير من تمويل المنظمات الأميركية التي تسعى إلى نشر الديموقراطية في الخارج.
إن السعي الى نشر الديموقراطية لا يعني أبداً أن كل دول العالم ستصبح ديموقراطية بين يوم وليلة، بل إن مسار الديموقراطية نفسه داخل الحضارة الغربية احتاج إلى صراعات وحروب أهلية وطائفية عدة حتى تم تجذره وحتى تحول إلى الصيغة السياسية التي لا رجعة عنها، وهو ما يفرض علينا الدخول في حوار ثقافي عبر الحضارات لتشجيع قيمها الإنسانية والديموقراطية وهو الأنموذج الأفضل لتحقيق ذلك.
فالديموقراطية اليوم تعد من أهم القيم الإنسانية المشتركة بالرغم من الاختلاف على معانيها ومسمياتها المختلفة، صحيحٌ أن الغرب تفرد في التأسيس النظري والمؤسسي لهذا المفهوم، لكن الحضارات والثقافات الأخرى تحمل بذوراً مشتركة تدور حول المفهوم ذاته وتتأسس عليه، إن الديموقراطية بمفهومها الإنساني العام هي التي تتيح للحضارات جميعها أن تتعايش بدل أن تتصادم وأن تتوافق على مفهوم «القيم الكونية».
الحياة

جميع المقالات المنشورة تعبر عــن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عـــن رأي يكيتي ميديا

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى