تركيا وأردوغان: القضاء سلاحاً
هوشنك أوسي
حدثان مختلفان ومتقاطعان شهدتهما تركيا في آن يوم الخميس الماضي 1-1-،2015 الأول؛ هجوم مسلح استهدف قصر “دولمه باخشه” العثماني (مركز قيادة السلطنة في حينه) من قبل رجل، تم اعتقاله وتفكيك القنبلة التي ألقاها على القصر، وقيل إنه ينتمي لأحد التنظيمات اليسارية التركية المتطرفة . والحدث الثاني، بدء محاكمة 14 متورطاً في قضية التنصت على رئيس الوزراء السابق، والرئيس التركي الحالي رجب طيب أردوغان، من خلال زرع أجهزة تسجيل في مفاتيح الإنارة الموجودة في مكتبه . وهذه المحاكمة، هي حلقة من سلسلة محاكمات، تعتبرها الحكومة في إطار حملتها لمكافحة ما تطلق عليه تسمية “الكيان الموازي” أو الدولة الخفية التي شكلتها جماعة الداعية الإسلامي، والحليف السابق لأردوغان، فتح الله غولن، ضمن مؤسسات الدولة التركية . بالتالي، أصبح القضاء التركي أبرز ساحات المعركة بين الحليفين الإسلاميين السابقين .
في حين اعتبر مراقبون أن الحدث الأهم، خلال الأسبوع الماضي، كان قرار المجلس الأعلى للقضاة والمدعين العامين في تركيا، إيقاف أربعة مدعين عامين عن مزاولة عملهم، لحين صدور نتائج التحقيق، بخصوص مسؤوليتهم عن حملة الاعتقالات والتحقيقات التي شهدتها تركيا في 17-12-،2013 طالت العشرات من الساسة ورجال الأعمال، بينهم أبناء ثلاثة وزراء في حكومة العدالة والتنمية، بتهمة الفساد . ومن بين القضاة الذين تم إعفاؤهم من مهامهم؛ زكريا أوز، الذي حقق في قضية هجمات عناصر “القاعدة” على القنصلية البريطانية والمعبد اليهودي سنة ،2004 كما استلم أوز ملف التحقيق في قضية الإعداد لانقلاب على حكومة العدالة والتنمية سنة ،2007 أو ما عرف بشبكة “أرغانانكون”، وأصدر القضاء التركي أحكاماً بسجن 254 شخصاً بين برلماني، وجنرال سابق، وسياسي، وتاجر، وكاتب، وصحفي وأكاديمي . وقتها، دافعت الحكومة عن أوز وعن قرار المحكمة، في مواجهة رفض وانتقادات المعارضة . بينما حين حقق أوز في فضيحة الفساد التي هزت حكومة العدالة والتنمية، أصبح الرجل مشتبهاً بالانتماء لجماعة غولن . والسؤال هنا: إلى مدى أصبح القضاء التركي سلاحاً استراتيجياً “فتاكاً” بيد حكومة حزب العدالة والتنمية الإسلامي في مواجهة المعارضة والخصوم والمنتقدين، سواء أكانوا علمانيين أو إسلاميين؟
لم يكن القضاء التركي، في أي يوم من أيامه مستقلاً، لا في عهد السلطنة العثمانية، ولا في حقبة الجمهورية العلمانية سنة 1923 وحتى الآن، بل بقي خاضعاً للسلطة السياسية الحاكمة . وعلى زمن حكومات حزب العدالة والتنمية، أجرت الأخيرة حزمة إصلاحات دستورية سنة ،2007 تم الاستفتاء عليها في 12-10-2007 . وحين ردت المحكمة الدستورية دعوى حظر العدالة والتنمية في 20-6-،2008 كان القضاء التركي خاضعاً تحت تأثير ونفوذ العلمانيين الأتاتوركيين . وقتئذ، تنبه الحزب الحاكم إلى أهمية الاستحواذ على هذا الجهاز، رويداً، واستخدامه سلاحاً هجومياً ضد الخصوم، ودرعاً لحماية نفسه من الهجمات السياسية والإعلامية . فأجرت الحكومة حزمة إصلاحات جديدة، استفتي عليها في 12-10-،2010 طالت الجهاز القضائي، حيث تم بموجبها تقليص مهام القضاء العسكري، والإشراف القضائي على القرارات النابعة من المجلس الأعلى للقضاء ووكلاء النيابة ومجلس الشورى العسكري، من خلال تأسيس هيئة إشراف عامة . والحد من صلاحيات المحكمة الدستورية العليا في حظر الأحزاب السياسية .
عاد الصراع بين الدستورية والحزب الحاكم مجدداً، حين ردت الأولى في إبريل/ نيسان 2014 حزمة تعديلات قانونية، استفتي عليها في فبراير/ شباط الماضي، تهدف إلى إعادة هيكلة الجهاز القضائي، وربط المجلس الأعلى للقضاء بوزارة العدل، ما يستهدف استقلال القضاء في الصميم . وقتها انتقد رئيس المحكمة الدستورية هاشم كيليج حكومة رئيس الوزراء التركي السابق، أردوغان، بشدة . ومؤخراً، كشف كيليج الذي سيحال على التقاعد خلال الأشهر المقبلة، لصحيفة “سوجو” التركية، عن ضغوطات تتعرض لها المحكمة الدستورية . ورفض كيليج سابقاً اتهامات الحكومة التركية بتغلغل جماعة غولن ضمن الجسم القضائي التركي، وتشكيلها “كياناً موازياً” للدولة، مطالباً الحكومة بتقديم الأدلة الدامغة بهذا الصدد .
ومع إحالة كيليج على التقاعد، بعد إنهائه سنين الخدمة، سيكون الطريق سالكاً أمام أردوغان وحزبه للاستيلاء تماماً على المحكمة الدستورية، آخر معقل من معاقل العلمانية في تركيا، بعد أن أحكم حزب العدالة والتنمية قبضته على مجلس الأمن القومي، الذي يترأسه رئيس الجمهورية، ويتشكل من قادة أسلحة الجيش وبعض وزراء الحكومة . ويشير فحوى البيان الصادر عن اجتماع المجلس المنعقد يوم 13-12-2014 إلى مدى سقوط هذا المجلس تحت سيطرة ونفوذ الحزب الإسلامي الحاكم، وبات منسجماً مع أجندة الحزب وخطابه الإيديولوجي والسياسي . حيث جاء فيه، بحسب ما أوردته وكالة الأناضول الرسمية للأنباء: “عازمون بكل ثبات على مواصلة عمليات مكافحة الكيان الموازي” . وأن الاجتماع تناول “التحركات العدوانية التي تتم مؤخراً في بعض البلدان الأوروبية ضد المهاجرين والمسلمين، وحرق للمساجد واعتداء عليها، معتبراً أن هذه الأمور بمثابة تطورات تدعو للقلق” . وندد الاجتماع ب “الهجمات الغاشمة التي ارتكبتها القو
ات “الإسرائيلية” ضد الأماكن الإسلامية المقدسة في فلسطين، وانتهاك حقوق الشعب الفلسطيني” .
وكمؤشر على استخدام القضاء لملاحقة الصحفيين الذين ينتقدون أردوغان وسياسات حزبه، احتجاز الصحفية صدف كاباش، بتهمة “استهداف أشخاص مسؤولين عن مكافحة الإرهاب”، سبب كتابتها تغريدة على صفحتها في موقع “توتير”، طالبت بعدم نسيان اسم القاضي الذي أوقف التحقيق في فضيحة الفساد التي طالت حكومة العدالة والتنمية . وفي السياق ذاته، أوقف الكاتب في صحيفة “زمان” محمد برانسو، المعروف بانتقاداته لحكومة أردوغان، ثم أفرج عنه . وسبق أن اعتقل رئيس تحرير الصحيفة نفسها، أكرم دومانلي، ثم أطلق سراحه . معروف أن “زمان” تابعة لجماعة غولن، ولكن ليس كل العاملين فيها من هذه الجماعة .
وبالرغم أن حزب العدالة والتنمية الإسلامي في تركيا، يشير في نظامه الداخلي، المنشور على موقعه الإلكتروني الرسمي على شبكة الإنترنت، وبشكل واضح وصريح إلى احترام الفصل بين السلطات . ويذكر في بند “القانون والعدالة” من برنامج الحزب أنه يهدف إلى “توضيح العلاقة بين السلطات الثلاث: القضائية والتشريعية والتنفيذية بشكل جلي وواضح ومفهوم . وتنفيذ مبدأ الفصل بين السلطات التشريعية و التنفيذية والقضائية بدقة، وتحقيق الرقابة والتوازن بين تلك السلطات”، إلا أن معطيات الحال التركية، ومجريات الأحداث خلال السنوات الأخيرة، منذ حزمة الإصلاحات القانونية التي استفتي عليها في سبتمبر/ أيلول ،2010 وحتى الآن، كل ذلك يشير، وبما لم يترك مجالاً للشك؛ إن مؤسسة القضاء في تركيا، لم تعد خاضعة لنفوذ حزب العدالة والتنمية الإسلامي وحسب، وبل أحد أهم واخطر أسلحته التي يستخدمها ضد خصومه ومنتقديه . لذا، لم يعد مثيراً للدهشة والاستغراب، حجم التدخلات الكبيرة والعميقة للحكومة التركية في سير المحاكمات الحالية، وحتى بخصوص فتح ملفات قضايا سابقة، وإعادة النظر في أحكامها التي سطرها القضاء التركي، بما ينسجم وأجندة الحكومة ومصلحة الحزب الحاكم .
استهداف القضاء والإعلام في تركيا، بحجة مكافحة “الكيان الموازي”، بات من ضمن روتين الحياة التركية . إذ سبقت الحملة الحالية، حملات أخرى، استهدفت عسكريين، ساسة، أكاديميين، كتاباً صحفيين ورجال أعمال، تحت شعار “مكافحة أذرع وشبكات الدولة الخفية التابعة لمركز القوى العلمانية في الدولة”، وحملات أخرى شهدتها تركيا، طالت ساسة ونشطاء وكتاب وصحفيين ورؤساء بلديات وبرلمانيين كرد، بتهمة “مكافحة الإرهاب والانتماء لحزب العمال الكردستاني” .
وبالإضافة إلى إغلاق ملف التحقيق في قضية الفساد الكبرى التي هزت تركيا، واتهام جماعة غولن بأن أنصارها المتغلغلين ضمن جهاز القضاء، هم “فبركوا” القضية، يتم اتهامهم أيضاً بأنهم الذين لفقوا التهم للعديد من الضباط والجنرالات المتقاعدين وزجت بهم في السجون، في قضية شبكة “أرغاناكون” أيضاً، في مغازلة واضحة للمؤسسة العسكرية، والتأكيد أن الحزب الإسلامي الحاكم يمتلك من القوة والقدرة على الزج برجال الجيش في السجن وإطلاق سراحهم، وقت يشاء . كل ذلك، يقطع الشك باليقين أن حزب العدالة والتنمية، لا يتدخل في سير القضاء والمحاكمات والتحقيق وحسب، بل يسيطر على جهاز القضاء، ويديره وفق أجندته ومصالحه، ويستخدمه ضد من يشاء، وفي الدفاع عمن يشاء . وأنه لم يبق لعلمانية تركيا ما يحميها . يفعل الحزب الحاكم كل ذلك بالقانون، وصندوق الاقتراع والعملية الديمقراطية . وعليه، ربما يأتي اليوم الذي يترحم فيه الأتراك على أيام حكم العسكر الأتاتوركي واستبدادهم وانقلاباتهم المؤقتة، مع دخول تركيا نفق “استبداد الديمقراطية” التي أنتجت نظام الحزب الإسلامي الواحد، والزعيم الإسلامي الأوحد، الذي يزداد طغمةً يوماً بعد آخر . ومن غير المتوقع أن تشهد تركيا تغييراً نوعياً من شأنه الحد من انزلاقها نحو المزيد من الانغلاق والتشدد واللون الواحد .
جريدة الخليج الاماراتية