آراء

حول الدولة القومية (الوطنية) والديمقراطية

محمد زكي أوسي

بداية تَجِبُ الإشارة إلى أن (الوطنية) هنا لا تحمل أيَّ دلالة قيمية، بل لها دلالات معرفية وسياسية عكس المعروف في اماديح أو الهجاء السياسي، وهي صفة تعادل صفة القومية بوصفها فضاءً ثقافياً وسياسياً مشتركاً لأفراد الأمة كافة، من المذهب القومي الذي يتبناه هذا الحزب أو ذاك.

وبالإمكان القول: إن الاصلاح هو تمكين ذوي الحقوق من التمتع بحقوقهم, والقوة الوحيدة التي يمكنها فعل ذلك هي قوة القانون, وليس قوة فردٍ أو جماعةٍ أو حزب بذاته, لذلك فإن الدولة الوطنية (القومية) هي أولاً وأخيراً دولة حقٍ وقانون فحقوق المواطنين هي واجبات الدولة السياسية التي هي المعادل الموضوعي السياسي للدولة الوطنية, وحقوق المعارضة هي واجبات السلطة السياسية وحقوق الأقليات هي واجبات الأكثرية وحقوق المرأة هي واجبات الرجل وحقوق الإنسان هي واجبات الإنسان, والضامن لهذه الحقوق هو القانون الذي هو ماهية الدولة وجوهرها وشرط الحرية وضمانتها وتجلٍ موضوعي للعقل والروح الإنسانية, ولا تكون الدولة دولة سياسية إلا إذا تبنت الحق والقانون الذي يمنحها القداسة وحق معاقبة المخالفين للقوانين المرعية, إذ لا عقوبة بلا قانون, وأرى أن شعباً لا يدافع عن قانون بلاده لا يستطيع حتماً أن يدافع عن وطنه, وقديماً فضل سقراط تجرّع السمّ على مخالفة القانون وكان يقول: (القانون فوق أثينا), وليس لدولة الحق والقانون, أن تفرض على مواطنيها أياً من الواجبات غير التي يفرضها عليهم وعيهم بالانتماء إليها وحقهم في المشاركة بجميع شؤونها التي هي شؤونهم أساساً, بل إن عليها ضمان حقوقهم أولاً وتلبية حاجاتهم المادية والروحية ثانياً وحماية حريتهم وأمنهم ورفاهيتهم ثالثاً, فجميع وظائف الدولة وظائف اجتماعية ومجتمعية.

ولما كانت مصالح الأفراد والفئات والطبقات متباينة ومشروعة في ذات الوقت, فإن القانون فعلاً تسوية تاريخية بين هذه المصالح وصيغة راقية للوحدة الوطنية القائمة على التعدد والاختلاف والتعارض, لذلك فإن الدولة الوطنية هي دولة الكل الاجتماعي, هي دولة جميع مواطنيها بلا تمييز واستثناء, يشارك فيها الجميع من خلال المؤسسة التشريعية خاصة ولأن مواطنيها ينتحلون نحلاً شتى, ويدينون بديانات مختلفة ويتبنون أفكار وآراء وسياسات متباينة, وجب على الدولة أن تكون محايدة حياداً ايجابياً تجاه الجميع, أي أن الدولة الوطنية هي دولة علمانية بالضرورة, وأجزم معتقداً أن دولة الحزب الواحدة والرأي الواحد واللون والدين الواحد هي أسوأ دولة على الإطلاق, حين تفرض عقيدتها على الجميع بالعسف والإكراه, بل يمكن القول إنها دولة سيئة لا تملك وازعاً أخلاقياً ولا عقلاً ولا قلباً ولا ضميراً (تذكروا ضحايا محاكم التفتيش وحملات التطهير زمن ستالين وضحايا البعث في العراق وسورية وضحايا ملالي ايران) والأمثلة كثيرة في عالمنا الحديث والمعاصر.

ولأن المجتمع جملة حية والبشر نزاعون إلى تحسين شروط حياتهم بإطراد ولأن الفرد الطبيعي الذي يسعى إلى إشباع حاجاته متعارض مع الفرد الساعي في سبيل الحرية والعدالة وكذلك الطبقات أو الفئات السائدة تعمل على تعزيز سيادتها بينما الفئات المسودة تعمل على تحسين شروطها وتعديل نسبة القوى الاجتماعية, فإن ما سميناه التسوية التاريخية ليس شيئاً ناجزاً ونهائياً, بل إن التسوية التاريخية يُعاد انتاجها بين الحين والآخر, لذلك فإن الدولة الوطنية هي المقدمة الضرورية منطقياً وتاريخياً للدولة الديمقراطية التي تجسد الحرية والعدالة وتستجيب لمطالب الروح الإنسانية.

إن الدولة الوطنية لا تكون حرّة مستقلة ما لم يكن مواطنوها أحراراً وسادة أنفسهم، يختارون بملئ ارادتهم مصيرهم وشكل نظامهم السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي يلبي حاجاتهم، وفي ضوء هذه التحديات تغدو الدولة الوطنية شكلاً سياسياً للمجتمع المدني الذي تنمو فيه العناصر الإنسانية والعقلانية والعلمانية والديمقراطية ويرتقي فيه الوعي الاجتماعي إلى مصافِ الوعي الكوني والتاريخي الحديث.

وثّمة قضية يبدو الحوار حولها راهن وضروري هي قضية الديمقراطية في سياقها المعرفي والتاريخي، لا سيما في الالتباس المقصود بين الديمقراطية والليبرالية الجديدة خاصة، وهنا سأكتفي بالإشارة إلى أهم تحديداتها وعناصرها التي تنمو في طور الاصلاح وتتبلور في المجتع المدني والدولة الوطنية (القومية) وفي المقدمة حرية الفرد وحقوق الإنسان.

الديمقراطية هي حقيقة أي نظام للحكم, ولكن أي نظام للحكم غير النظام الديمقراطي ليس حقيقة الديمقراطية, وهي الوحدة الجدلية بين الوجود الاجتماعي وشكله السياسي, إنها وحدة تستمد مشروعيتها وقيمتها ومبرراتها من ذاتها, لأن كل عنصر من عناصرها واقعي وضروري لأنه مستمد من الشعب وجميع أنظمة الحكم باستثناء النظام الديمقراطي, هي تناقض في ذاتها بين الشكل والمضمون, الديمقراطية هي وحدة الوجود الاجتماعي الفعلي للفرد الذي قوامه الحرية والوجود السياسي الفعلي للمواطن, الذي قوامه القانون, وتتجلى الديمقراطية واقعياً في العلاقات الاجتماعية وأشكال التنظيم السياسي التي في حقيقتها تعني انبساط الروح الإنسانية في العالم وفي التاريخ وهي كذلك الوحدة الجدلية بين جميع الفئات الاجتماعية وتمثيلاتها الثقافية والسياسية, أو الوحدة الجدلية بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي, والوحدة الجدلية بين السلطة والمعارضة, الوحدة التي تحقق فعلاً سيادة الشعب, وتجعل التداول السلمي للسلطة ممكناً وواجباً وقبل هذا كله وبعده, هي النظام القائم على مبدأ الإنسان وفركرة التاريخ ومفهوم التقدم, وهي النظام الذي ينطلق من المجتمعالمدني ودولة الحق والقانون نحو هدف واجب وممكن هو لمجتمع المؤنسن أو الجماعة الإنسانية.

والصيغة الواقعية التي تتجسد فيها الديمقراطية هسي مشاركة المواطنين الأخرار فعلاً في الدولة السياسية، من خلال المؤسسة التشريعية المنتخبة انتخاباً حراً ومباشراً وسريعاً ونزيهاً بإشراف القضاء، أو هي حضور المجتمع المدني في الدولة السياسية فعلياً من خلال هذه المؤسسة، يجدد بنفسه ولنفسه خصائص نظامه العام وخياراته الأساسية ويضع التشريعات الكفيلة بتحقيقها، ويراقب السلطة التنفيذية ويحدد وظائفها.

 

 

المقال منشور في جريدة يكيتي العدد “280”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى