رواية (أسئلة الدّم والنّدم) مرآة السّينما
قراءة انطباعيّة لرواية (أسئلة الدّم والنّدم) للشّاعر والرّوائي السوريّ الكُرديّ خالد إبراهيم.
أماني المبارك – كاتبة أردنية
يعود بنا الرّوائيّ خالد إبراهيم إلى الأدب المقاوم الذي ظهر في عام 1948بسبب العدوان الاسرائيلي الغاشم على فلسطين في الوقت الذي زخرت فيه المكتبة العربيّة بالرّواية الفلسطينيّة وظهر أدب المقاومة، وقد جسّده غسان كنفاني في عائد إلى حيفا، رضوى عاشور في رواية الطّنطوريّة، وإبراهيم نصر الله في رواية زمن الخيول البيضاء،
فالرّوائي خالد إبراهيم استطاع من خلال روايته (أسئلة الدّم والنّدم) التأكيد على دور الأديب والمثقّف في مناهضة الحروب من خلال كتاباته لا سيّما في العصر الحديث، ففي الوقت الرّاهن أصبح الأدب منبراً للتّعبير عن آمال وتطلّعات ضحايا الحروب الدّموية، وجاءت روايته لنشر الأدب المثاليّ والموضوعيّ فهي مهمّته ورسالته السّامية كروائيّ ملتزم، وابن بيئته وابن قضيّته.
عمد الرّوائي خالد إبراهيم في روايته(أسئلة الدّم والنّدم) إلى تسليط الضّوء على الشّرارة الأولى للانتفاضة السّلمية في سوريّا عام 2011 ضدّ النّظام والتي تحوّلت إلى حرب أهليّة واسعة النّطاق فيما بعد، غرقت بلاده بالمعارضة والمنظّمات الجهاديّة مثل تنظيم الدّولة الإسلاميّة والقاعدة، وتدخّل الدّول المجاورة من جهة، والدّول الغربيّة من جهة أخرى، وما قاساه الشّعب السّوري من ويلات الحرب بشكل عام، والأكراد بشكل خاصّ، وما عانوه من قتل وقهر وتعذيب،فهم يتوزّعون في ثلاث مناطق ضمن الشّريط الحدوديّ بين سوريا وتركيّا والعراق، ولكنّ بلدة عفرين في شمال حلب أخذت المساحة الأكبر من السّرد كمناطق الرّيف السّوري حيث حياة البساطة والعمل في الزّراعة، فيذكر في الفصل الخامس ما يلي :
“أتذكّر الولائم في الأعراس والمآتم، أتذكّر لون التّراب قبل الحصاد وبعده وأعواد القطن قبل قطافه وبعد، الآبار البحريّة والسطحيّة، أصوات الجرّارات الزراعيّة من نوع «فرات وكيس»، والعجاج الذي كان كفيلاً كمصفاة زمنيّة لسماءاتنا البريئة، ما زلت أتذكّر تماماً هجوم كلاب القرية المجاورة علينا عند ذهابنا مساءً لزيارة صديق أو لعمل ما أو لموعد غراميّ…”
في الوقت الذي تقوم فيه الرّواية على التّخييل، والتّمسّك بتلابيب السّرد، والميل إلى السّيرة الذّاتية والّتي تعدّ بمثابة شاهد عيان على الأحداث نجد الرّوائي خالد إبراهيم يحيكُ لنا روايته بغرائبيّة فلسفيّة تكمن خلف الصّورة الخقيقية، فقد استطاعت روايته تجسيد المفهوم التّجريديّ للوجع والرّعب والقهر من خلال الدّماء والأشلاء المتناثرة من القصف والقذائف والبراميل المتفجّرة، وغاز السّارين وصيحات النّساء المغتصبات، وصرخات الأطفال، تجسيد كلّ هذه المشاهد عن طريق مختبر شعوريّ بصريّ فكريّ أمام الصورة السّريعة التي غزت العالم بكلّ أشكالها الفوتوغرافيّة، السينمائيّة، التلفزيونيّة، والمقاطع التّصويرية، وكلّ ما يُنشر ويوثّق عبر مواقع التّواصل الاجتماعيّ، فإنّه واجه الصّورة المفزعة من خلال قلمه فكتب دراما الحرب وتفاصيل الحياة للإنسان السّوري باعتماده على عدد كبير من الشّخوص المختلفة سواءً كانوا ضحايا، شهداء، ثوّار، رجال الأمن والمخابرات، الأطفال تارّة يأتون إلى حجرته في منفاه دورتموند في ألمانيا حيث تنهال عليه الأسئلة كما تنهال عليه الذّكريات والحنين لسوريّا، يجتمعون على طاولته الباردة ، ويشاركونه القهوة أو العشاء في مشاهد تأخذ فيها الشّخصيات أدواراً مختلفة لكلّ منها سرديّة خاصّة لفضح الجرائم المرتكبة، وإزالة الضّباب عن المرايا لتسطع الحقائق كالشّمس، حوارات وملاحقات مفاجئة للشّخوص يدخل خلالها الرّوائي في حالة من الجنون في أحلامه ويقظته، تطارده أشباح الشّخوص أينما ذهب، وكأنّه أصبح القاضي مهمّته الإنصات لهم، وتوجيه الأسئلة لكلّ منهم، دوّامة الأسئلة والإجابات تنخر في مسامات الغربة، وتزجّ به في زنزانة الذّكريات، وطرح التّفاصيل على طاولة الاعتراف من جديد، وأحياناً يصل الأمر لجمع الخصوم، محكمة مصغّرة بحجم حجرة الكاتب، ولا بدّ من الإشارة أيضاً إلى الحالة النفسيّة والصّراع الدّائم للكاتب مع شخوص الرّواية أثناء استرجاع تلك الذّكريات وصور الحرب مثل القتل والدّماء والموت والفقد والغربة، ما بين الماضي والحاضر مقارنات تُدسّ في زوايا حجرته فلا مفرّ له منها إلّا بمحبرته وفنجان قهوته ونافذته للتّخفيف من وطأة الحرب المستعرة في عقله، وكأنّه يقول في نفسه: لا بدّ للوطن المفتّت أن يعاد تشييده؛ فالقارئ لرواية خالد إبراهيم يلاحظ إعادته لقراءة الماضي من خلال وضع الماضي والحاضر أمامه لفهم ما آلت إليه أمور الوطن من نزوح ولجوء وعرض المأساة كفيلم وثائقيّ بجودة عالية فسرد الماضي من وجهة نظر الكاتب ما هو إلّا إحياء لذاكرته وفخر واعتزاز بما كانت عليه قبل لعنة الحروب الأهليّة، كابوس يؤرّق عمليّة السّرد والأسلوب الذي يواجه الكاتب في الكشف عن الصورة الحقيقية للحرب.
ما بين بلدة عفرين ومدينة دورتموند تفاصيل مرعبة، أمكنة ملطّخة بالدّماء، شخوص من الضّحايا والشّهداء والأطفال، وأحلام على قوارب الموت، جميعها تطوف حول الكاتب وكأنّها تعاقبه وتحمّّله خطيئة ما جرى، فتأمره أن يثور بمحبرته ويكتبهم بنار القلم، فيثور الكاتب بسرديّته وشعره في آن واحد، كيف لا يثور وهو الكُرديّ السوريّ صاحب الأرض والقضيّة، كيف لا يثور وهو من ضحايا الحرب التي جعلته يعيش اللّجوء والاغتراب، كيف لا يثور وهو يعلم النهاية في وطنه الجريح، فمن خلال المونولوج الذي خلقه في الرّواية كشف لنا عن حاله المقهور كما حال الشّاعر محمود درويش عندما قال:
“ستنتهي الحرب ويتصافح القادة، وتبقى تلك العجوز تنتظر ولدها الشّهيد، وتلك الفتاة تنتظر زوجها الحبيب، وأولئك الأطفال ينتظرون والدهم البطل، لا أعلم من باع الوطن، ولكن رأيتُ من دفع الثّمن”
في الوقت الذي يقع على عاتق المثقّف والأديب الحرّ والملتزم مناصرة قضيّته بكلّ ما يملك من أدوات إبداعيّة يكون صوته ضعيفاً إذا كان قريباً من التّحديات التي تفرضها السّياسة؛ فنحن نعلم أنّ المشهد الثّقافي مقترن بالوضع السّياسي وهنا يكمن الدّور العظيم للمثقّف والأديب في مناهضة الظّلم والتّصدي له بكلّ ما أوتي من أدب، فتوثيقه بمثابة تأريخ أدبيّ صادق لمعاناة شعب ذاق كلّ أساليب التعذيب والقتل والدّمار، ومرجعيّة للأجيال القادمة، عليه أن يقاوم حتّى وإن لم يكن صوته يوازي الحدث الرّاهن بسبب القيود المختلفة بدءاً من مواقع التّواصل الاجتماعيّ وانتهاءً بما تفرضه عليه الحكومات العربيّة من قيود ،وهذا ما فعله الرّوائي خالد إبراهيم عندما ذكر أسماء الشّخوص الحقيقية في الرّواية، وفضح كلّ المؤامرات من خلال الأسئلة التي كان يوجّهها لهم، لم يذهب للرمزيّة وتغليف الصّور، بل كان موضوعيّاً في الطّرح فترجم الواقع من غير تجميل، فهو يعلم جيّداً الكم الهائل من الندوب المرتسمة على الإنسان السوريّ.
الحرب السوريّة بالنّسبة للرّوائي خالد إبراهيم شكّلت نقطة تحوّل في مشهديّة الثّقافة والإبداع العربيّ فطالما ارتبط الإبداع بالقضايا الإنسانيّة والمصيريّة في التّاريخ ، فكيف لا تكون الحرب وتداعياتها الشّرارة الأولى لإلهامه فالحرب القائمة الآن حرب رقميّة بالدّرجة الأولى يشاهدها العالم بأسره عبر مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة وما تتضمّنه من فيديوهات من قِبل المؤثّرين والنّاشطين على اختلاف أجناسهم وأديانهم وإبداعهم، فالحرب السوريّة أصبحت مادّة خام يتزوّد بها المثقفون والأدباء ليشكّلوا مادّتهم وإنتاجهم الأدبيّ، في النّهاية كلّ ما حدث ويحدث في سوريّا له الوقع الكبير في النّفوس وشحذ المشاعر الوجدانيّة وإلهام الإبداع رغم الأحداث الجسام التي ذاق مرارتها ابن سوريّا المغترب الرّوائي خالد إبراهيم فجسّدها بمحبرته ليكون مرآة السّينما.
ربّما إيجاز ما حدث في الحروب الدّموية الأهليّة في سوريا قول بيرتراند راسل:
(نتيجة الحرب لا تحدّد من هو صاحب الحقّ وإنّما تحدّد مَن تبقّى).
المقال منشور في جريدة يكيتي العدد “318”