سليم بركات يواجه الخراب بالبلاغة
محمد مظلوم
منذ الجملة الأولى في ديوانه الجديد أو قصيدته الطويلة «سوريا» ( دار المدى 2015) يقدّم سليم بركات مدخلاً لقراءة المعمار الملتبس لقصيدته هذه، فهو يعتذر في وقت مبكر عن الإتقان بالضبط والربط: «لا تسألوني الضبطَ مُتْقَناً كالرَّبطِ مُتْقَناً بعد الآن. الأعالي مُخَبَّلَةٌ مزَّقْت صُدْرَتها، والأسافلُ مُخبَّلةٌ كالأنحاءِ الخَبَلِ لا تُرتجى بعد الآن» وتحت وطأة هذا الجنون المطبق من الجهات كلها، تنداح قصيدته في بوحها أكثر مما تنمو في بنائها، وتنثال عبارته في دلالتها أكثر مما تتماسك في معناها، وتتداعى رؤياهُ في الخراب أكثر مما تتصاعد في مشهدية واضحة. ولعلَّ هذه الخصائص في البناء والتشكيل والأداء العام للقصيدة أكثر انسجاماً.
هي، إذاً، مهارة الجنون وبلاغته عبر مائة وخمسين صفحة قوام الديوان – القصيدة، تتراوح بين السرد المتواتر في جملة طويلة، والامتداد العمودي للعبارة الموجزة بكلماتٍ متراكبة، وهذا الشكل البصري المزدوج هو التنوُّع الوحيد الظاهر في القصيدة.
ولهذا جاءت قصيدته الطويلة «شقشقة» غاضبة، وحشرجة منفلتة، ونوعاً من الهذيان المرير حيال هول ما يجري. في مرثية طويلة للزمن والمكان، والمكان هنا أقرب إلى المعنى الشامل، وإن قيَّده منذ العنوان بـ «سوريا» هذا التقييد المباشر، المختزل بكلمة واحدة، لا نقع على ملامحه التفصيلية في متن القصيدة. فليس ثمة حضور وصفيّ «للمعاهد في المنازل والديار» كما دأب شعراء القصيدة الطلليَّة في الشعر العربي، فالأمر مختلف مع صاحب «هكذا أبعثر موسيسانا» فهو لا يعنى هنا بالتاريخ كثيراً، ولا يعمد إلى استدعائه ومقاربته من الراهن. وليس ثمة عاصمة ولا مدنٌ كبرى محدَّدة، فما من حضور لفظي أو مجازي لدمشق بوصفها الجزء الذي يختزل الكل، ولا حتى لـ «موسيسانا» قريته الكردية الصغيرة في الشمال السوري، ولا لأية مدينة سورية أخرى بل إن اسم «سوريا» نفسها لا يردُ داخل القصيدة بالتصريح، إنما بالكناية العامَّة: «البلد» هذا الانحسار المزدوج لكلٍّ من أسماء الأمكنة والسيرة الشخصية في مدارجها. جعل شاعر «الكراكي» يدرج على طريقته الشعرية في استنفار المعجم المحتشد المعهود في عموم شعره، حيث الاستعارة والمجاز يتدافعان بالأكتاف.
«قصيدة سوريا» أقرب إلى مراثي المدن المنكوبة ذات المصائر الأسطورية في الحضارات القديمة، كما أن ذاكرة بركات ليست مشدودة إلى مشهديات المكان الحياتي الشخصي، بل إلى المكان الروحي، ومعجمه المديني المباشر منحسر، لمصلحة معجم برِّي متعدِّد التأويل، فشجرة نسبه تمتدُّ إلى «جدتي الغابة وجدِّي الجبل!» لا لحياة أليفة مستعادة في أماكن معهودة كالحانات والمقاهي والبيوت والشوارع. فالشاعرُ «الكرديُّ» دأب في العديد من أعماله الشعرية والروائية، على نقل خصائص تلك البيئة وأجوائها، بلغة عربية رفيعة وغير متاحة لكثيرين، فاستوطن عالماً مزدوجاً في عرسٍ صعب بين مستوى اللغة من جهة، وطبيعة البيئة من جهة مقابلة، وهو بهذا المعنى «مُواطن» اللغة التي يكتب بها لا بالمعنى العرقي والقومي، وإنما بالمعنى الثقافي الكياني. وعندما يكتب اليوم عن نكبات مسقط الرأس، بعد هذه السنوات الطويلة من المنفى والهجرة في ثقافات متعدّدة، فإنه يجد نفسه معنيّاً بالكارثة، ليعود «سوريّاً» بالمعنى الثقافي والكياني كذلك، ربما لهذا يتحوَّل حرف النفي «لا» الذي يدخل على العشرات من الجمل الإسميَّة ويستمر أحياناً لصفحة أو أكثر إلى نوع من النفي المطلق المركب، نفي من المكانِ ونفي من العالم والتاريخ، وفي مقابل هذا النفي تتوالد العبارات من هذا الاستدعاء الذي يشبه الندب والمرثية عبر النداء المتصل: «أيها البلد».
الغنائي والملحمي
سوريا القصيدة ليست ملحمة، فهي أولاً أحادية الصوت، الصوتُ الوحيد في القصيدة: أنا الشاعر إزاء مُنادى بعيد: «أيُّها البلد» جملة تبني عليها القصيدة نسيجها فتغدو بمثابة عودة متكررة لاستهلال جديد، كلما وصلت القصيدة، أو كادت، إلى غاياتها. إنها النَّول المحوري في نسيج «بنيلوب» حيث النهاية مغلقة دائماً وهي على وشك الاكتمال، وفي الوقت ذاته ثمة بدايات كثيرة مفتوحة وتتناسل من ذلك النول، وفي تلك العودة المستديمة لا تتشعَّب القصيدة في البناء بل تتماثل وتتراكم فصولاً وطيات، عبر تلك الحوارية المريرة من ضفة أخرى، بيد أن ما بينهما ليس نهراً فاصلاً يتسنّى للشاعر عبوره، إنما صحراء عريضة من الهجر الذي يكاد يغدو فقداً».
ولأنها أنشودة تعتمد الاستطالة والتتابع الشعوري والتدفُّق الحر، لا النموّ الدرامي، فهي أقرب إلى رُوح النصّ الطويل منه إلى شعر الملحمة. إن هذا الحضور المكثَّف للأنا ضميراً لغوياً، وهاجساً شخصياً، عاملٌ آخر أبعدَ القصيدة عن سمات الملحمية، وأحالها إلى الطول والاستطراد الغنائيين. وبهذا المعنى فهي قصيدة غنائية ضخمة في تعبيرها مستعيرة فداحة الواقع وتصادم عناصره. فالشروط الملحمية لا تتوفر فنياً، في شكل حتمي وتلقائي في مطلق القصيدة الطويلة، وعلى الرغم من أن أجواء كل ما يجري، تشير إلى ملحمة، وأية إشارة أبلغ من كل هذا الموت والخراب والتيه؟ لكنَّ الأمر يتعلَّق بالسؤال كيف يمكن تجسيد مثل هذا الواقع فنياً؟ فالمادة الملحمية ليست كافية وحدها لكتابة قصيدة ملحمية، كما أن تاريخ قصيدة النثر العربية لا يحفل بتراث واضح لهذا النمط من القصائد. هي، إذاً، قصيدة غنائية طويلة أكثر من كونها ملحمية.
وهي ليست قصيدة سياسية بالمعنى التقليدي كذلك، إذ لا يمكن إحالتها إلى هذه المرحلة المليئة بأراجيز المعارك وشعاراتها، فالقصيدة مكتوبة عام 2014 بعد أن أسفر «الربيع» عن حقول الدم والمقابر، والقصيدة حديث لا ريب فيه عن «هرج ومرج» أجواء فوضى وفتنة، ولذا فهو لا يلوِّث خطابه بالشعار، فكفى الشعار عناءً أنّ عباراته مُلوَّثة بالدِّماء، وبغبار البيوت المتهَّدمة، وروائح الموت والبارود.
«أيها البلدُ. الْغريبُ شريكٌ فيكَ/ والغزاةُ أشراكٌ. جرائمُ الأمهاتِ أنْ يلدنَ بعد الآنَ، والآباءِ أن يستولدوا. هي ذي تقوى المدية فوق النَّحرِ، وتقوى المذبحةِ، لا خُسرانَ، أو نصرَ» كذلك لا يمكن توظيفها في حروب الخنادق السياسية، فهي معنية أكثر بتدوين الخراب الذي خلقته السياسة، وفوضى الخنادق، معنية بهجاء المشهد الفكاهي حدّ البكاء لما حول ذلك الخراب، «سَمِّهِ القتلَ بأسماءِ أيامك بعد الآن، أيُّها البلد» إنها أقرب إلى الشعر الوطني، ليس بذلك المفهوم الرومانسي المتوارث عن فكرة «الوطن» في أشعار وسرديَّات عصر النهضة، لكنه جرح شخصي ذاتي. انثلام في الوجدان، فلا وجود لكلمة «وطن» على امتداد النص، مقابل تكرار في بنية حكائية «ألغورية» لمفردة البلد… يجري نداؤها بصيغة نداء البعد من الضفة الأخرى أو عبر الشاشة: أيها البلد.
كرنفال لغوي
هكذا يتحوَّل شعر سليم بركات في قصيدته الطويلة من ذلك الكرنفال اللغوي المعهود في شعره، إلى مناخٍ لطقوسٍ جنائزية، وقدّاسٍ تأبيني تزدحم فيه مفرداتٌ من قاموس اللعنة حدَّ الاضطراب: الخيبة، الحقد، الذبح، الجريمة، النهب، القتل، الخوف، الخسارة، الفقد، الكفر، الرماد، والغزااااااااة التي يكتبها هكذا «بألف متتابعة» أينما وردت تعبيراً عن صرخة طويلة وألم مبرح.
وكما دأب شاعر «الجمهرات» في مجمل تجربته الشعرية، فإنه يرسخ القناعة هنا بأنه وريث للبلاغة العربية، في نثرها وشعرها، فهو ينتمي من جهة إلى صنف الشعراء البديعيين في التراث العربي، ونقع في متن القصيدة على كثير من الشواهد البارزة للاشتغال على البديع البلاغي المحكم على وفق تقاليد تلك المدرسة، لعل أبرزها تقنية التكرار البلاغي لترسيخ التوكيد في العبارة. أو في التوليدات الذاتية للمعنى من المفردة ذاتها تعبيراً عن الرتابة والملل في زمن دائري: «أوقفِ النزوحَ من الوقتِ إلى ما لا يعرفه الوقتُ. أوقفْ خصومةَ التراب للترابِ» أو في الجِناس الذي ينطوي على مفارقة: «لا دِيْنَ للغدِ.لا دَيْنَ للغد على أحدٍ»
وعندما يستخدم السجع الكهنوتي في الحشو الدَّاخلي للعبارة، فَإنَّ الديوان سيبدو وكأنَّه خطبة نثرية بليغة تعود لعصر تألق الفصاحة المنبرية، ويجعل القصيدة كأنها واحدة من جمهرات خطب العرب.
سوريا «القصيدة / الواقع» صرخة رثاء ممزوجة بصيحة هجاء، هجاء يصل حدَّ الإدانة للجميع، لتلك الأراجيز والمباهلات التي تصنع الخراب وتمجِّده!. لكنه هجاء لا يخلو من يأس وخيبة ذاتية تتكثَّف عند آخر جملة في قصيدة الكردي السوري: «لن تعيدني بعد الآن.. بلدي أنت أبها البلد»
صحيفة الحياة