آراء

سوريا ما بعد التطبيع؟

هيئة التحرير
بقلم: فرحان مرعي

خرج الناس في ١٥ آذار ٢٠١١، يدعون إلى التغيير الديمقراطي في سوريا، بعد عقود طويلة من الاستبداد ، ولكن، رسالة الشعب السوري، الديمقراطية انحرفت ، بقدرة قادر – عن مسارها الطبيعي، الشرعي ، إلى حالة فوضى، ودمار هائل، لم يسبق له مثيل منذ الحرب العالمية الثانية، وإلى صراع دولي كبير، مازال مستمراً، ولم يجد هذا الصراع طريقه بعد إلى التوافق والحل السياسي، رغم تفاعل هذه الأزمة، إقليمياً ودولياً وتداعياتها السلبية على الأمن والاستقرار في المنطقة.
مع استمرار المعاناة يبحث المواطن عن مخرج لأزمة بلاده ويتساءل : ، كيف يمكن الخروج من هذا النفق المظلم، من هذا الواقع المؤلم ، المجهول ؟

جرت تغيرات كبيرة على الساحة السورية، نتيجة الحرب، تغيرات في جغرافيتها ، وفي الهيكلية السكانية ، وفي اقتصادها وبنائها العمراني، وفي بنيتها التحتية، تراكم الخراب والدمار، إلى حدود الانهيار شبه التام للدولة السورية، حتى وصلت إلى الدولة الفاشلة، بكلّ معانيها.

يتحرّك اللاعبون الأساسيون على هذه الساحة، سياسياً، ودبلوماسياً، وعسكرياً، ينتقّلون من موقع إلى آخر، من مرحلة إلى أخرى، يتفاوضون، عبر قمم دولية ، وإقليمية، سرية وعلنية، مع غياب شبه تام للسوريين، ورغم، هذا الحراك، المتعدد، ،المتردد ، لا بوادر للحل السياسي يلوح في الأفق، يبدو أنّ القضية السورية تجاوزت الإرادة الدولية، إلى وقائع ثابتة، لم يعد بالإمكان تجبير الكسور، مثل انكسار جرة فخارية، تطايرت أشلاءها، وشظاياها، واحتلّت كل شظية مكانها الطبيعي، فشلت الإرادة الدولية في كل محطاتها، أو هكذا أرادت لها أن تفشل، فشلت في مؤتمراتها، ومفاوضاتها، وعقوباتها، التي لم تردع النظام، قيد انملة، بل زادت هذه العقوبات من تأزيم المأزم .

سوريا، ميدانياً، اتخذت خارطة جديدة، جيوسياسية، واجتماعية،الوقائع الجديدة ، تتثبت، تتجذّر، على شكل كيانات، ومنها تتكون، بالتدريج، سوريا المستقبل، التي ستختلف كلياً، عن سوريا ما قبل ٢٠١١، ولأنّ الحالة النفسية للإنسان تتغلّب على المناقشة العقلية أحياناً كثيرة، فلا يرى حجم المأساة، هكذا الشعب السوري، لا يتصوّر حجم المأساة، والتغييرات التي حصلت، من استيلاء، الدول، والمليشيات، والجماعات المسلحة الغريبة على مساحات واسعة من الأرض السورية، وتقسيمها إلى مناطق نفوذ دولية، هذه الوقائع الكبيرة لن تعود كما كانت ، وخلال أيام ، ولا من خلال انعقاد قمة، أو مؤتمر، أو اجتماع للجنة الدستورية، أو هيئة التفاوض، أعتقد أنّ هؤلاء جميعاً، ودون أن يدروا، يجهّزون النعش إلى مثواه الأخير!!! والملفت، بعد هذا الحراك الدولي ، المماطل الدائر في الفراغ، واللامفيد، وبدلاً من إيجاد حل سياسي وفق القرارات الدولية ، ينهي حقبة الإستبداد، ومحاسبة الطغاة ، يهرول العالم إلى التطبيع مع النظام السوري، وإعادة تدويره، في مشهدٍ سياسي مريب ، على شكل مكافأة له؟!

والمضحك، والمبكي في آن واحد ، أنّ دولة مثل أمريكا، وهي توافق ضمنياً على التطبيع، تصدر في الوقت نفسه، قانوناً لمكافحة التطبيع؟!، يعني أنّ أمريكا تدخل المنطقة في كلّ مرة، في متاهة جديدة، على غرار قوانينه السابقة، في العقوبات، التي لم يزحزح النظام عن مواقفه، وسياساته، ولا يكترث بهذه العقوبات أصلا، بل يرى فيها أطواق النجاة.

نعتقد أن التطبيع أضعف حلقة في سلسلة المحاولات الدولية والإقليمية في حلحلة الأزمة السورية، بل يصلح عنواناً، لمسرحية في التراجيديا البشرية، لأنّ التطبيع بحد ذاته انتكاسة حقيقية لهذه المحاولات، واستهتار بمشاعر الشعب السوري ومعاناته، لذا نتساءل: هل جاء التطبيع، نتيجة تنامي قوة النظام، وجبروته ، ولم يعد بالإمكان تغييره، أم أنّ الحقيقة ، شيء آخر.

في الواقع، النظام ضعيف جداً، ولا يختلف كثيراً عن قوة، أية ميليشيا على الأرض، ولا يشبه نظام دولة، وقراره السيادي محكوم من الروس والإيرانيين، واقتصاد البلد منهار، والشعب يعيش في أدنى مستويات المعيشة، في ظلّ تدهور قيمة الليرة السورية أمام الدولار الأمريكي، إذاً لماذا يطبعون معه ؟ هل ينتظرون من النظام أن ينفذ بعض شروط الحل ، بمعنى التطبيع مقابل السلام، أو أية تسوية سياسية ، أم أنّ التطبيع مقابل مشاريع سرية، عقود نفوذ طويلة الأمد، ام التقسيم، مثلاً ؟؟

إن النظام الذي لم يتنازل لشعبه، في وقتٍ كان العالم كله ضده، لن يتنازل له الآن، والعالم يهرول نحوه!!!! ، ما حصل في سوريا، أكبر من مسألة انهيار الاقتصاد، ودمار المدن والقرى – هذه تتعافى وتبنى خلال سنوات قصيرة، إذا عادت الأمور إلى نصابها، رأينا، دول مثل ألمانيا وروسيا دمّرتها الحرب العالمية الثانية، ولكنهما استعادتا عافيتهما بسرعة، وتبوّأتا قمة التطور العالمي، بسبب وعي شعبها، وتجاوز أخطائها- ولكن معالم سوريا الجغرافية و السكانية، تغيّرت ، في الجنوب والوسط، والشمال، حصل تغيير ديمغرافي خطير ، وتمركز طائفي واضح، دخل الغرباء، جاؤوا من جنوب لبنان، والعراق وأفغانستان، وغيرها ، نزح الناس من مناطقهم الأصلية، من جراء العنف المفرط، والقتل على الهوية الطائفية، من مناطق الشام، وحماه، وحلب والرقة ودير الزور، ، إلى الشمال،، والشمال الشرقي، وللأسف ، أصبح هؤلاء الذين نزحوا من مناطقهم، وحلّ محلهم الغرباء- أدوات للتغيير الديمغرافي، في تلك المناطق ، حيث الغالبية الكُردية، أي أنّ ضحايا التغيير الديمغرافي، استخدموا ضد القوميات الأخرى.

إذاً، وكما نوّهنا تغيّرت المعالم السيادة الوطنية، هناك أكثر من دولة، وعشرات الفصائل المسلحة تتمركز، على الأراضي السورية، كسلطات أمر الواقع، ومناطق النفوذ، ومناطق احتلال،…. باتت هذه الكيانات المصطنعة تطبع المناطق بطابعها، الآيديولوجي والسياسي والطائفي، والثقافي..

في النتيجة، نحن في انتظار ولادة سوريا أخرى، جديدة، سياسياً وجغرافياً وسكانياً، انتظار قد يطول لعقود من الزمن.!!!

 

المقال منشور في جريدة يكيتي العدد “310

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى