صورة عن “التيليغراف” لمتهم بريطاني الجنسية بقضايا تطرف.
سعد بن طفلة العجمي- وزير إعلام سابق في الكويت
لماذا استغربنا ظهور “داعش”؟ لماذا رأينا في ظهورهم الدامي وسلوكياتهم المتحجرة شيئا نكرا؟ تنشر وسائل التواصل الاجتماعي صورا وأفلاما تسجيلية تسجل بعض أهوالهم وبشائعهم، وهي حلقة في سلسلة من التاريخ الدامي الحديث والقديم بالعراق خصوصا وفي منطقتنا العربية عموما، ولئن تعمدت “داعش” نشر فظائعها، فإن فظائع “قوات” المالكي يحرص على طمسها، وهي تتشابه بدرجات مع شنائع صدام ومن سبقه ولا تختلف كثيراً عما تعج به سجون الأنظمة العربية جميعاً.
عناصر “داعش” يتصرفون وفقاً لترجمتهم للدين الإسلامي، ومن الواضح أن انتشار هذه الترجمة وسيطرتها على عقولهم وغسيلها لمخهم لم تأت من فراغ، فالقوى الدينية السياسية قاطبة دون استثناء تنكر تصرفاتهم وتوقيتها لكنهم لا ينكرون أنهم يتصرفون وفق فتاوى ورؤى دينية موجودة، قد يرون تشددها وينكرون توقيتها، لكنهم لا ينفون وجودها بالكامل، والسؤال هو: كيف انتشر مثل هذا التطرف الدامي وقوانا الدينية السياسية المرخصة والتي تعيش بيننا تدعي ليل نهار أنها قوى وسطية وتسامح وتعايش!؟
الحقيقة التي لا نستطيع نكرانها، أن “داعش” تعلمت في مدارسنا وصلّت في مساجدنا، واستمعت لإعلامنا، وتسمّرت أمام فضائياتنا، وأنصتت لمنابرنا، ونهلت من كتبنا، وأصغت لمراجعنا، وأطاعوا أمراءهم بيننا، واتبعوا فتاوى من لدننا، هذه الحقيقة التي لا نستطيع إنكارها. “داعش” لم تأت من كوكب آخر، ولا هي خريجة مدارس الغرب الكافر أو الشرق الغابر، وإن كان بعضهم يحمل جنسية دول “الكفر”، ولكن تعبئتهم الفكرية والدموية أتت من مشايخنا ومناهجنا ومناهلنا الدينية السياسية.
جغرافيا مناهجنا ترسم لهم خرائط الوهم الديني عن أمة كانت، متجاوزة بذلك مفهوم الدولة المدنية العصرية، ولا تعترف بحدود جغرافية ولا واقعية سياسية، فلماذا نستغرب إزالتهم للحدود وعدم اعترافهم بها؟ وتاريخ مناهجنا التعليمية يسرد لهم أوهاماً من سراب الخديعة والتزوير لحقائق التاريخ، يدرسون التاريخ كسرد لقصص وخزعبلات لا يجوز التحقق منها ناهيك عن التشكيك في صحة حدوثها من عدمه، ومبدأ الشك هو أحد أسس دراسة التاريخ كعلم، روايات تنسخ وتكرر مع تعديلات متفاوتة وبطرق سردية متفاوتة حسب الراوي ومقدار العاطفة والدموع والصراخ الدراماتيكي الذي يصاحب طريقة السرد “لزوم” التأثير على صغار الجماهير التي يغرس في عقولهم قوالب جامدة لا تقبل التشكيك ولا النقد والتحليل والتساؤل، ويرسم لهم تاريخا طوباويا يحنون “للعودة” إليه، فلا يهمهم المستقبل ولا يستقرئون خرائطه وتوقعاته بشكل علمي، فلقد اختصر له أصحاب “الفتاوى على الهوا” أن تفجير نفسه بالكفار وبكل من يخالفهم سوف تختزل له المستقبل وتطير به في أحضان الحور العين وجنان النعيم. فلماذا نتعجب من معاملتهم للمسيحيين وتهجيرهم أو فرض الجزية عليهم؟ أوليس هذا القانون في الدولة الدينية؟ وهل هناك بين وسطيينا من ينكر ما قاموا بفعله ضد مسيحيي الموصل من حيث المبدأ؟ أم أنهم ينكرون ذلك من حيث التوقيت وتحاشيا للصدام في غير وقته ومكانه وحسب؟
“داعش” هي إعلان إفلاسنا كأمة وكدول وكفكر وساسة ومثقفين ورجال دين وإعلام ومناهج ومدارس وتعليم، هي إعلان شهادة وفاة كل المحاولات البائسة لإقامة الدول المدنية العصرية التي يختلط فيها الدين مع السياسة، هي الدليل القاطع على أننا سنراوح في مكاننا ولن نلحق بالأمم المتقدمة ما دمنا نعلّم أطفالنا في المدارس الغيبيات والطبيعيات في آن واحد، لنخلق جيلاً منفصم الشخصية – معزولاً عن الواقع ومبهوراً بتقدم الأمم.
باختصار، نحن جميعا “داعش”، نحن الذين خلقناها وصنعناها وربيناها وعلمناها وجندناها وشحنّاها وعبأناها ثم وقفنا حيارى أمام أهوالها التي صنعناها بأيدينا.