عفرين في الواجهة
جان كورد
عفرين مدينة جميلة وهي مركز منطقة جبل الأكراد (كورداخ) التي تضم 365 قرية مقسمة على عدة نواحٍ، وتقع على بعد 65 كم غرباً من مدينة حلب السورية، في حين تبعد عن انطاكيا في لواء إسكندرون الذي تم إلحاقه بتركيا من قبل الفرنسيين في عام 1937 مسافة 100 كم، وتسكن المدينة أغلبية مطلقة من الكورد، على الرغم من وجود أعداد هائلة الآن من اللاجئين السوريين فيها نتيجة تركهم مواطنهم في المدن والقرى السورية التي تعرّضت ولا تزال تتعرّض منذ سبع سنين للقصف والتهجير وحتى الإبادة بالسلاح الكيميائي المحظور دولياً، فوجدت في عفرين السكنى في أمانٍ وحرية.
هذه المدينة التي مرّ عليها الكثير من الغزاة في التاريخ وحكمتها الحكومات المختلفة، وآخرها العثمانية والفرنسية والعربية لم تفقد أصالتها الكوردية وقدرتها على احتضان أبناء وبنات الأقليات القومية والدينية، إلاّ أنها ظلت محرومة من حقوقها على الدوام، فلا مصانع ولا معامل وإنما السلب والنهب المنظّم لخيرات أرضها وطاقات شعبها على أيدي الحكام الذين لم يتوانوا عن ارتكاب الجرائم ضد الإنسانية فيها لمجرّد أنها مدينة كوردية ترفض الذل والمهانة وتسعى لحياةٍ في الأمن والاستقرار والحرية.
منطقة جبل الأكراد التي تعرف مؤخراً لدى العديد من وسائل الإعلام بمنطقة عفرين تقع الآن بين فكي كماشة تركية من ناحيتي الشمال والغرب، حيث تركيا، ومن ناحية الجنوب أيضاً بعد دخول القوات التركية إلى محافظة ادلب السورية، ويمكن القول بأن عفرين صارت على كف عفريت أو أنها “في فم الذئب”، حيث يهدد رئيس الجمهورية التركية صباح مساء بأن عفرين “خطر على الأمن القومي التركي”، وهذا بحد ذاته يطرح سؤالاً هاماً، ألا وهو: لماذا ليست مدينة القامشلي خطراً على الأمن القومي التركي، وهي على الحدود التركية – السورية مباشرةً، بينما عفرين التي تبعد مسافة عشرات الكيلومترات عنها، وكلا المدينتين كرديتان وتحت سيطرة ذات الحزب الذي تصر الحكومة التركية على إدانته ب”الإرهاب”، أي حزب الاتحاد الديموقراطي الذي يعتبر من قبل قوات التحالف الدولي الدولي أحد أهم الأحزاب الحليفة لها ضد إرهاب داعش والنصرة؟ وتمكن بمساعدة الولايات المتحدة الأمريكية من السيطرة على ما يقارب 25% من كل المساحة الجغرافية لسوريا.
الحكومة التركية لها أهدافٌ بعيدة غير هدف إضعاف أو إرهاق حزب الاتحاد الديموقراطي الذي تجده كفصيل سوري من حزب العمال الكوردستاني الذي فشلت عدة حكوماتٌ تركية متعاقبة منذ الانقلاب العسكري للجنرال كتعان إيفرين في عام 1980 من القضاء عليه ولا يزال مستمراً ولو بضعف في تنفيذ عمليات قتالية في عمق شمال كوردستان، وهذا الاتهام (علاقة الحزبين ببعضهما) هو الذريعة الوحيدة التي تتمسك بها الحكومة التركية لتوحيش (قسد) التي تشكل وحدات الحماية الشعبية لحزب الاتحاد الديموقراطي رأس حربتها، فهذا الحزب قد سعى منذ بداية الثورة السورية لبناء علاقاتٍ مع تركيا، وأرسل مندوبين بارزين منه إلى أنقره للاتصال بالحكومة التركية والتأكيد على أنه لا يضمر شراً لتركيا، في حين أن الحكومة التركية رددت على الدوام ولا تزال بأن هذا الحزب ينسق مع نظام الأسد الذي “فقد الشرعية ومارس الوحشية ضد شعبه” و”تسعى تركيا لإسقاطه!”.
قبل الحديث عن الأسباب الحقيقية الكامنة وراء دعوة الحكومة التركية قوات التحالف الدولي والروس والإيرانيين، بل ونظام الأسد أيضاً، يجدر بنا القول بأن المواطن الكوردي ما عاد يهتم بالعلم الذي يرفرف على سراي الحكومة في عفرين، أكان تركياً أم سورياً أم أمريكياً أم روسياً أم لأي دولةٍ أخرى، فالمهم بالنسبة إليه هو أن تعيش عفرين في أمنٍ وسلام وأن تتمتّع بالحرية وتنال الحقوق المنصوص عليها في المواثيق الدولية، وفي مقدمتها تمتّع الشعب الكوردي بحقه في تقرير المصير. فما الفارق الذي حدث بين حكم الفرنسيين وحكم البعثيين في مدينة عفرين، وما الفارق بين إدارة الأمر الواقع وإدارة النظام الأسدي فيها؟ وعلى أساس هذا، يجب النظر إلى قدوم أو احتلال أو اغتصاب القوى الخارجية لمدينتهم، من سورية أو روسية أو تركية أو أمريكية. الكورد يريدون صون مدينتهم من التدمير الذي أصاب كوباني الباسلة، ولو أدى ذلك إلى تغيير علمٍ بعلمٍ آخر، أياً كان وبأي ألوان كان. والأغبياء وحدهم ينسون ما جرى لكوباني!
الحكومة التركية تحاول كم خلال نشر ذرائع باهتة ضم منطقة عفرين إلى لواء اسكندرون كمكافأة لها على إيوائها أعداداً هائلة من اللاجئين السوريين – الذين يتم استغلالهم بفظاظة في أسواق العمل التركية – وعلى احتضانها لمعارضين سوريين في من جراء الأزمة السورية، وهي مكافأة يسيل لها اللعاب، فإن عفرين منطقة ثرية ومنتجة لزيت الزيتون بغزارة وفيها سد (ميدانكي) لإنتاج الطاقة ولديها وفرة في أيدي العاملة الرخيصة، إضافةً إلى أنها مصدر كبير ودائم لتمويل حزب العمال الكوردستاني وحزب الاتحاد الديموقراطي بالمقاتلين والمقاتلات وبالمال الوفير. وبفرض السيطرة على المنطقة تقضي الحكومة التركية على هذا المصدر بسرعة لأنها سترسم حدوداً جديدة بين المنطقة ومدينة حلب السورية التي يشكل الطريق بينها وبين عفرين شرياناً لتدفق المال والمقاتلين، كما أن تركيا طامحة في القضاء على مشروعٍ أمريكي سابق كان يسعى لإيجاد منطقة كوردية آمنة تمتد من إقليم جنوب كوردستان إلى البحر الأبيض المتوسط، بضم “جبل الأكراد” الآخر، الذي يقع على مقربة من مدينة اللاذقية السورية. ولم يكن هدف تركيا من تدخلها العسكري تحت يافطة “درع الفرات” إلاّ للقضاء على المشروع الأمريكي ذاك.
الإيرانيون لا يهمهم شمال سوريا، بقدر ما يعطون الأهمية لوسط سوريا وجبال العلويين ومنطقة الساحل، حيث هدفهم الوصول بمشروعهم (الهلال الشيعي) إلى الشاطئ الشرقي من البحر الأبيض المتوسط، وفي حال السماح لهم بضم (نبل والزهراء) في شمال –- غرب سوريا، حيث يعيش الشيعة السوريون، فإنهم لن يعارضوا تركيا في الاستيلاء على عفرين.
الروس يهمهم الإبقاء على مطارين لهم في طرطوس وحميميم لقرنٍ كاملٍ من الزمن، ولخروجهم بماء الوجه من سوريا، بتمديد فترة حكم الأسد أو تبديله بمن يريدونه كخادمٍ لهم في سوريا. وهم مستعدون لاستخدام حقهم في الفيتو مائة عامٍ آخر ليمنعوا المجتمع الدولي من معاقبة جزارهم في دمشق، حتى بدأ بعض الناس يعتقدون بأن الروس هم الذين طلبوا من أسدهم قصف خان شيخون بالسلاح الكيميائي انتقاماً لهم من العملية الإرهابية التي جرت في بلادهم قبل ذلك بوقتٍ قصير.
أما الأمريكان فإنهم لا يعلمون ما يريدونه حقاً، ولا يريدون أن تتحوّل الحرب في سوريا إلى حرب فيتنام أو كوريا لأن سوريا ليست من الدول المنتجة للبترول أو الثرية، وتكاليف إعادة إعمارها مخيفة، ولذا يفضلون إتمام سعيهم للقضاء على إرهاب داعش وسواها بعقد تحالفات وقتية حتى مع أعدائهم، كما فعلوا في العراق سابقاً، ومن ثم العودة إلى سياسة “تحريك الدمى” من خلف الكواليس، وهذا يعني أنها قد تتخلى بسرعة عن قوات (قسد) وخدمات أعدائها الآيدولوجيين و”الآبوجيين”، وفي حال الاختيار فإنهم يفضلون العلاقة مع تركيا التي لا تزال عضواً في حلف النيتو على العلاقة مع من لا يزال يعتبر الولايات المتحدة الأمريكية عدواً إمبريالياً لهم وداعماً للرجعية في المنطقة ولن تضحي واشنطن من أجل عيون الكورد ومدينتهم عفرين بثاني جيشٍ من جيوش الحلف.
فماذا يجب على الكورد القيام به في حال هجوم الجيش التركي على عفرين فعلاً أو اقتحامها خطوةً بعد خطوة، وقريةً بعد قريةً، وكما قال العقيد القذافي الراحل: “زنكه زنكه”؟
هناك عدة احتمالات للرد الكوردي الحكيم والبراغماتي، سنتطرّق إليها في مقالة أخرى، حتى لا يشعر القارىء بالملل الآن، وسنكون سعداءً إذا ما تطوّع أحد الزملاء الناشطين وأدلى بدلوه في الموضوع الذي نجده هاماً ومثيراً حقاً.