من الصحافة العالمية

علاقات العرب والكرد بين مساحات التعبير وساحات التغيير

سيف الدين عبد الفتاح
حاول مؤتمر المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات عن علاقة العرب والكرد، والذي اختتم في الأول من مايو/ أيار الجاري في الدوحة، تبيُّن المخاوف وتبصّر المشتركات. وقدّم المركز بدراسته هذه القضية، شديدة الحساسية، أي العلاقة بين العرب والأكراد، نموذجا غايةً في الأهمية في الاقتراب من مثل هذه القضايا ذات الحساسية العالية، والتي يقوم بعضهم، من فرط الحذر في إثارتها، بتجاهل تلك القضايا، وعدم الاقتراب منها تحت شعار “الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها”، ولكن الأمر في هذا الشأن على غير هذه القاعدة، ذلك أن من الفتنة الحقيقية أن ندفن رؤوسنا في الرمال، ونتغافل عن قضايا كثيرة تعتمل في جغرافيا العرب، وكأن حياة العرب بلا أزمات أو إشكالات، إنما يشكل حالةً من وأد هذه الإشكالات، وهي حية من دون أي مسوغ، لمحاولة إحداث قدرٍ من التواطؤ بعدم الدخول إليها أو إثارتها.
 
كان ذلك ديدن المركز العربي حينما يعالج قضايا كبرى، لا تؤثر فقط على العلاقات العربية العربية، ولا العلاقات بين الدول، وإنما كذلك حينما يمتد الأمر إلى العلاقات بين المجتمعات والشعوب، بين التكوينات والتجمعات. ومن هنا، كان هذا الدور التنويري الذي يقوم به المركز في سياق الوعي بجملة القضايا التي لم تكن هناك سابقاً فرصة علمية أو بحثية أو أكاديمية، لتناولها من جوانبها كافة، بما يسمح من مساحاتٍ لا بأس بها للتعبير عن الرأي الأكاديمي، بل والرؤية السياسية، حتى لو تخالفت أو تناقضت، أو إخراج هذه الرؤى من صندوقها الأسود إلى حالةٍ من الشفافية والحوار البحثي، إنما يشكل، في حقيقة الأمر، أفضل طريقٍ للتعامل مع هذه القضايا في إطار إحداث وعي ممتد وعميق بالقدرة على إدارة حوارٍ حول معظم هذه الإشكالات، مهما كانت ملتهبة، ومهما اتسمت بالحساسية الشديدة أو المفرطة.
هكذا فعل المركز في موضوعاتٍ تتعلق بالعرب الشيعة، ومؤتمرات أخرى عن العلاقات مع إيران وتركيا،وقضايا في غاية الأهمية صار عنوانها “المكاشفة والمصارحة”، ذلك أن وضع أوراق هذه الإشكالات على مائدة البحث والحوار هو أفضل طريق للوعي بهذه الإشكالات وأحجامها وأوزان تأثيرها، وتوجهات تتحكم في مساراتها، أو أطروحات متنوعة إلى حد التناقض تتطلب تعاملا بحثيا ومنهاجيا ليخرج التعامل مع هذه الإشكالات والقضايا إلى مسالك البحث الممنهج، لا التمنيات العاطفية والانفعالية، أمور تتعلق بحال الانفعال أو الافتعال أو الإغفال التي تضر بهذه القضايا والبحث فيها، طبيعة القضايا والوقوف على مناطق فهمها والوعي بها، والقدرة على التعامل معها، ببحث دقيقٍ وربط عميق.
هذا هو الأمر الذي يتعلق بما شهدناه من مؤتمر العرب والكرد من اتجاهات متنوعة، وتضمنه أموراً من ناحية الذاكرة التاريخية، وكشفت النقاب عن إمكانات توظيفها في المعارك السياسية من خلال تصورات سلبية متبادلة. ومن غير الوقوف على الأسباب الحقيقية لتلك الإشكالية والمقاصد التي أثرت في صياغة هذه الرؤى المختلفة حول هذه القضايا المتنوعة.
وواقع الأمر أن التعامل مع هذه الظواهر والقضايا وهذه الإشكالات على حقيقتها إنما يشكل طاقةً إيجابيةً تفتح بالمراكمة في هذا الخيار والمسار، وتسمح بالكشف عن المقاصد التي يمكن الوقوف عليها في هذا المقام. ومن أهم الأمور التي كشف عنها هذا المؤتمر بيئة (وبنية) الاستبداد التي أصابت المجتمعات في مقتل، فأصابتها بالفرقة، واصطنعتها على أعينها بقصدٍ وتعمد، ذلك أن شعار المستبد هو “فرّق تسد”، وكان عنوان هذه الفرقة عملاً من المستبد، ليحاول أن يبقيها متشرذمةً، حتى يمكنه الإمساك بخيوطها.
وانتقلت من فعل للمستبد متعمدٍ إلى تراشقٍ للمجتمع معتمد، وبين تكويناته وتنوعاته الحقيقية. ولا يمكن كشف هذا الانتقال بخطاب سياسي، يقوم على إذكاء عمل الفرقة، وما يترتب عليه من اعتزال أو انفصال، المستبد وعناصر المكمل ومكوناته في فرقة. يكون المستبد فردا ما دام الناس أفراداً، إنها لعبته حينما ينقل صراع المجتمع معه إلى صراعٍ داخل المجتمع نفسه، فيجعل الشعب فرقا وشيعا، إنها صنعته، بل جعلها حرفته ومهنته، يقوم بها بتعمدٍ، حتى يستطيع مع التأليب أن يقتتل الجميع، وينجو هو بأمان سلطانه وطغيانه واستبداده وتأمين كرسيه وغشم سياساته، كان هذا الحدث الأول الذي ينقلنا إلى ساحات التغيير. فلو كان هناك إجماعٌ على مسؤولية المستبد على ما نحن فيه، لكان هناك اجتماع بين تكوينات المجتمع، لتفكيك متوالية الاستبداد، وكشف خدعه الكبرى وأساطيره التي يشيعها، كذلك فإنه، من جملة تلك الأمور، ما يتعلق باستخدام جهاز مفاهيمي، يوصلنا، في النهاية، إلى حالةٍ صراعيةٍ، تقوم على قاعدة أن بعض المجتمع يمزّق بعضه، من دون أي اعتبار للمعنى الذي يؤكّد على تماسك الجماعة الوطنية، وبدا أنه من أهم المفاهيم التي أثرت سلبيا في هذا المقام مفهوم الأقلية واستهلاكه على نحوٍ تحريضي واستبدادي، يستنفر وضع الأغلبية في أن ليس للأقليات من قيمةٍ يحرّض الأقلية مع طموحها أن تثبت حال قيامها، وبدأت تعبر عن طموحها بانفصالها.
بدت هذه الحالة الصراعية في أسوأ صورةٍ في مشهدٍ، يحاول أن ينقل فكرة الأقلية والأغلبية في  السياسة إلى مجتمعاتٍ مزّقها كل ممزّق، ذلك أن شأن التسويات في السياسة على قاعدة الأغلبية والأقلية حال إجرائي، ينظم حال التصويت والتمثيل، أما الأغلبية والأقلية إذا ما اجتمع وهو استنفار غير مفهوم يعقد الصراع، فيشرعن معنى الاقتتال الأهلي، ويزكّي تلك المطالبات الانفصالية، فهل من الممكن لنا أن نمحص بعض جهازنا المفاهيمي في التعامل مع هذه القضايا ذات الحساسية، ولا نستخفّ باستخدام مصطلحات ومفاهيم تؤجّج الصراعات، وتخرج الاختلافات إلى حالٍ من النزاع والتنازعات.
وكذلك فإن تلك المعارك التي تدار من الناحية السياسية إنما تدار على العدد والأعداد، فيتحدّثون عن أعداد الأقليات التي تحاول الأغلبيات أن تهوّن من عددها، وتحاول الأقليات أن تعظم من تعدادها. والقضية، يا سادة، ليست في العدد والتعداد، وإنما في التعدّدية، مهما كانت مساحاتها، وإدارتها بما يمكن المجتمعات أن تشكل علاقات مدنية سوية، وتكوينات مجتمعية قوية، تستطيع أن توازن السلطة، وتشير إلى بناء علاقات سوية بين الدولة والمجتمع. وإدارة التعدّد والاختلاف والتنوع إنما تشكل قدرة حقيقية في احترام معاني المواطنة وحقوق الإنسان، وبما يعبر عن مفهومٍ محدّد للسلطة، ومفهوم متعيّن للمواطنة، ومفهوم ممتد للإنسان، والحفاظ على حقوقه الأساسية والتأسيسية والمدنية والسياسية، هذا هو الشأن الذي يتعلق بساحات التغيير في هذا المقام، ويعبر عن طاقاتٍ حقيقية للمجتمعات، والتئام تماسكها.

ومن هنا، من الواجب، في موضوع الكرد والعرب، ومن خلال مساحات التغيير الواسع وحريته والتعبير الموضوعي العلمي البحثي وضرورته، أن نتحدّث عن سيناريوهات الانفصال وخطورتها، وعن قدرات بناء المجتمع في ظل سيناريو يتجنّب عمليات الانفصال، ويستطلع رأي أصحاب الشأن في ذلك الأمر، وهو ما يمكن أن يجنّبنا السيناريو الذي يتعلق بتمزيق أوصال دولة وفرقة مجتمع. كان هذا المؤتمر مختبرا حقيقيا، مارست فيه الجماعة البحثية والعلمية أفضل ساحاتٍ للتعبير بحرية، وأنتجت ممكناتٍ تتعلق بساحات التغيير التي يجب أن ننطلق إليها لصياغة مشروع حقيقي، يأمن فيه الجميع، ويؤمن حقوق كل جماعة في المجتمع، إنها إدارة التعدّد، لا إثارة قضية العدد والتعداد.
 alaraby.co.uk
جميع المقالات المنشورة تعبر عـــن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عـــن رأي Yekiti Media

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى