فرصة لعودة الحياة السياسية
د. عبدالحكيم بشار
تشهد معظم دول المنطقة منذ عقود حالة من عدم الاستقرار بمستوياتٍ مختلفة، ولا يُخفى على المتابع بأن الأداة الرئيسية لزعزعة الاستقرار وإدامة عمر التخلف الاقتصادي وسوء إدارة الموارد واِنتشار كل أشكال الفساد والعنف هي الأنظمة الاستبدادية بالدرجة الأولى، وكذلك الأمر الكيانات والأحزاب السياسية الوظيفيه التي لديها أجنحة عسكرية قوية بدءاً من تنظيم القاعدة مروراً بحركة طالبان وصولاً إلى تنظيم داعش وحركة حماس والعديد من الفصائل الشيعية مثل الحوثيين في اليمن وحزب الله في لبنان والحشد الشعبي في العراق، إضافةً إلى حزبٍ بلبوس قومي وهو حزب العمال الكردستاني.
فهذه الحركات تسبَّبت في السنوات السابقة بإراقة الكثير من الدماء وأزهقت الأرواح وأهدرت طاقات المجتمعات في أمورٍ جانبية، و كانت أيضاً سبباً رئيسياً لإزاحة الأحزاب الواقعية التي تناضل من أجل تحسين ظروف حياة المواطنين وإيجاد الحلول الأنسب لقضاياهم، ذلك لأن تلك التنظيمات المتطرفة في خطاباتها ألهت الجماهير بشعاراتٍ فصفاضة ولافتاتٍ ضخمة بعيدة عن هموم الناس واحتياجاتهم اليومية.
وليس من المبالغة القول إن كل تلك الأحزاب الوظيفية لم تعمل من أجل دولها أو قضاياها الوطنية، بل عملت لأجنداتٍ خارجية كأدواتٍ لصالح جهات أخرى هي غالباً بالضد من مصالحها الوطنية، ولكي تقوم بأداء وظائفها فإن جميع تلك الكيانات الوظيفية تبنت ايديولوجيات متطرفة مقرونةً بالعنف المفرط وصولاً لمختلف أشكال الإرهاب الفكري والجسدي.
كما اختلفت أيضاً أشكال ممارسة الإرهاب حسب الوظيفة الموكولة للتنظيم المعني، وقد عاثت تلك المنظمات فساداً في المنطقة معتقدةً أنها في مأمنٍ من أن ترتد عليها شر أعمالها، إلاَّ أن السابع من اكتوبر وما تلته من أحداث وتداعيات ومنها مقتل رئيس حركة حماس السيِّد اسماعيل هنية في إيران وكسر ظهر الحركة بشكلٍ نهائي وإصابتها بشللٍ تام كانت بداية التحول الكبير، إذ عقب تتالي الضربات الموجعة لم تعد الحركة قادرة على الوقوف على قدميها، وعلى الأرجح ستكون نهاية فعاليتها مع إخراجها من السلطة بشكلٍ نهائي وملاحقة قيادتها من الصف الأوَّل الذين على الأغلب لن يجدوا ملاذاً آمناً في أيَّة دولةٍ ليلجؤوا إليها، وحتى تلك الدول التي استخدمت الحركة ودعمتها بسخاء لفترةٍ طويلة لن توفر لقادتها المأوى.
ونفس الشيء ينطبق على حزب الله اللبناني، حيث كان زعيمها حسن نصرالله الذي قتل يوم الخميس بتاريخ 26/9/2024 من قبل إسرائيل يتباهى بأنه يخدم الإمام ويأخذ منه تعليماته وأن مصلحة إيران تتقدم على مصلحة لبنان، وفجأةً وجد حسن نصر الله نفسه مطارداً لا يوجد مكان يختبئء به، وأعتقد أن إيران التي خدمها طوال عمره رفضت إيواءه.
على كل حال فما حصل لحركة حماس وقادتها وحزب الله وقادته ليس إلا فصلين من مسلسلٍ أكبر لتصفية الكيانات الوظيفية في المنطقة، وقد تشمل عملية التصفية الحوثيين وقادات الحشد الشعبي في العراق؛ كما أن تخلي إيران عن تلك الكيانات الوظيفية بهذا الشكل الذي نراه اليوم يؤكد أن لا مستقبل للكيانات الوظيفية، وأن قادتها ليسوا أكثر من أبطال وهميين تم النفخ فيهم إلى حين، فهم قادات من ورق تم صنعهم من قِبل المشغلين لأداء وظائف معيَّنة، وما يجري حالياً يؤكد حقيقة أخرى وهي أن تلك الكيانات رغم أنها تتابع الأحداث وتعي المخاطر المحدقة بها، وأنها قد تكون التالية في مسار التصفية وإنتهاء مهامها مِن قِبل صانعيها إلاَّ أنها غير قادرة على اتخاذ قرار مستقلٍ أقله فك ارتباطها بالمشغلين وتدارك وضعها قبل فوات الأوان.
واضح أن المنطقة تمر بمرحلة الغربلة الكبيرة وقد يفضي الأمر إلى إنهاء مهام التنظيمات الوظيفية، بل على الأغلب سيتم العمل على تصفيتها نهائياً لتصبح جزءاً من الماضي، وهذا التحول من غير المستبعد أن يخلّف أضراراً كبيرة في الضحايا الأبرياء والاقتصاد والبنية التحتية للدول المشمولة بالتغيير، ولكنها بنفس الوقت قد تفتح صفحة جديدة في بلدان الشرق الأوسط التي حُرمت من الأمان والاستقرار لعقود طويلة وتكون فرصة حقيقية لعودة الحياة السياسية بعيداً عن التطرف بكل أشكاله وعن الميليشيات المسلحة التي كانت تعمل على منع الرأي الآخر واستمرارية الاستبداد وترسيخ نفوذه، وبالتالي فإن الأحزاب الوطنية ستأخذ دورها الحقيقي سواء لجهة الدفاع عن حقوق شعوبها أو في إطار مواجهة الاستبداد بكل الوسائل الديمقراطية المشروعة.