في نقد الفعل السياسي كوردياً.. الحركة السياسية الكوردية بسوريا أنموذجاً
وليد حـاج عبدالقـادر
بداية لا بدَّ لي من التوضيح عما دفعني لتأخير نشر القسم الثاني من هذا الموضوع لأكثر من سنتين – نُشر قسمه الأول في أيلول عام 2016 – وقد تكون – لمبرراتي بعض من الصواب، أو لنقل – عساه أتى كنتاج – ربما – لسلوكيات أراها قد تسربت إلينا وهواجس لردات الفعل وفق تلك العقليات التي لا تسمح بالمطلق بخوض السرديات التي تميط اللثام عن جذر كثير من التراكمات!، إلا أن متواليات الأحداث وظروف المرحلة الحالية بصيرورتها الموائمة لما قبل السنتين الماضيتين وظاهرة الانكشاف الفعلي لبعض من التوجهات التي اجتهدت وبعنف بقائها مطلسمة ومدعومة بطرائق شتى لنظم ابتلى الكورد بهم، واختلفت هي بينياً في كل شيء، واتفقت – بالتراضي – مع تلك – الحالة الطارئة – التي تستخدمها كل دولة / جهة وفق غاياتها ومصالحها تحت يافطة بند عريض عنوانها : أمنهم القومي – الوطني!!.
وفي الأهم هنا، ملاحظة – تكويعات الحركة – ومدى مواءمتها هي بالذات في التحول وفق مقتضيات راهنها كما هي في أجزاء كوردستان الأخرى، وبالعودة إلى الخاصية الكوردية في سوريا سايكس بيكو والتي تحولت إلى ساحة ضخ فيها الدم الكوردي على بقاع متعددة مثلها كما أجزاء من كوردستان وخاصة التركية منها، والتي نالت النصيب الأكبر وأحدثت خللاً في تراتبية الأجيال، ناهيك عن استهدافها لقطاعات شبابية في مراحل ثانوية منها وجامعية لعشرات السنين، وليسيل الدم الكوردي وبغزارة أكبر بالتوازي مع تصاعد الأزمة السورية ورحى المعارك فيها.
وإذ بنا نتفاجأ – كخبط عشواء وهنت – بأن من قادوا هذه المعارك لا يملكون أي تصورات عن الآفاق المستقبلية، لابل، وفجأة، أن القوى اللاعبة في المشهد السياسي والعسكري لا مبادئ أو قيم أخلاقية عندها، فباتت مجرد رقع توجهها “أمريكا وروسيا”!، ولتسقط فينا عفرين بشكل كارثي!، ومع هذا، هناك كلمة حق علينا أن نقر بها، وأعني بها براعتنا في نسج الطرائق التي تعيدنا إلى تلك التغريبة، إلى ظاهرة التكوين السايكولوجي لإرادتنا السياسية – كحركة كوردية في سوريا – والتي مهدت بعد مرحلة الاعتقال الأولى لقادة حركتنا وكظاهرة – تنميط – للهيمنة الأمنية على الوعي وحصرها – لقضيتنا – وبالمطلق في نطاقية الجهاز الأمني كإسقاط مذهل لا يزال يمارس ببراعة مطوقة بذراع أمني خفي ومفعلة بقوة توتر عالية داخل كيانية الحركة السياسية.
ولعلها ليست بطرفة أبداً ظاهرة صف الضابط “أبو رامز” والذي كان برتبة رقيب أول وآلية تمريره لتعليمات الضابط محمد منصورة – مسؤول الملف الكوردي – بشكل مباشر – حسب زعم قيادات عديدة لا تزال على سدة هرم أحزابها – فيخلط “أبو رامز” بين الحزم والمزحة يعقب على بعض مسودات البيانات الجماعية والمفترضة نقاشها بينياً في قيادات أحزابنا، و(والله المعلم فقط يريد تغيير الجملة الفلانية … إي حطوا هاتين الكلمتين مكان … !)، وللعلم فإن تلك المسودات كانت مطروحة أساساً من قيادات محددة في تلك الأحزاب لتناقش على حدة من قبل كل حزب!.
وبالتأكيد بقيت مثل هذه الأمور من أهم عوامل الارتباك في معادلة – الخرق البنيوي – لهرم فوقي متوقع – ولتنجلي بوضوح أمام الحالة العملية الأوضح في سجل نضالات شعبنا الكوردي في سوريا، وأعني بها انتفاضة قامشلو في آذار 2004، التي كشفت عن حالة مزرية من التخبط والارتباك، إن للنظام أو غالبية الحركة السياسية الكوردية، حيث كان النظام يتصور أن الحركة منضبطة وهي تحت السيطرة مع تلك الفسحة التنفيسية التي كانت قد وفرتها درءاً للتراكم، عكس الحركة السياسية الكوردية التي استشعرت -كأطر عليا- بأنها هي المستهدفة، لا سيما بعد بهرجات رأس النظام ومهرجاناته بمسمياتها المتعددة كربيع دمشق وبيانها وما شابهها، والتي سبقت الانتفاضة التي أفرزت حقيقة راسخة بأن الجماهير قد تشبعت قمعاً واضطهاداً، وقد أثبتت جديتها في تجاوز أطرها الحزبية، مع التأكيد وكحالة استباقية أيضاً لما تم العمل عليه كبدائل محكمة في نسقيات أخرى مثل تشكيل حزب الاتحاد الديمقراطي سنة 2003 والغاية منه كان واضحاً في لملمة أنصار حزب العمال الكوردستاني من كورد سوريا بعد تفاهمات واتفاق النظامين السوري والتركي التي تأطرت في اتفاقية أضنة.
ومع كل ذلك، كان يوم 12 / 3 / 2004 مفصلياً للنظام والحركة السياسية الكوردية، إذ لم يكن على الإطلاق من الأمور السهلة تجاوز الجماهير لأطرها التنظيمية ورهابها الممنهج كرعب متلازم، وانطلاقتها بتلك العفوية وبروح قومية عالية في مشهد ملحمي أرعب النظام الذي سعى بكل دموية لئلا تتحول تلك الجماهير إلى قوة تجرف معها ركائز كثيرة كانت قد ترسخت سلطوياً كثوابت وهي تتهاوى الآن مع هدير الجماهير في ساعات الانتفاضة الأولى، وكان الدافع الأكبر للنظام في اتخاذ قرار استخدام القوة المفرطة وتتالي سقوط الشهداء الكورد في ساحات تظاهراتهم واعتصاماتهم، إلا أن تلك الدماء لم تسفك هدراً، بل أصبحت نقطة تحول هامة أثرت وفرضت نمطاً جديداً في أساليب مواجهة النظام وابتكار أشكال مختلفة كالعصيانات الجماهيرية والاعتصامات التي لعبت دوراً هاماً في وضع الأطر الحزبية إن بإحراج بعضها أو إخراج البعض الآخر من خانة الصمت – وباتوا محاصرين أيضاً من النظام وقواعدهم الذين كانوا منخرطين في النشاط الجماهيري محتجين أو معتصمين!.
هذه التجربة الفريدة للانتفاضة جاءت على مقاس شعبنا، والذي أثبت بقوة وثبات جهوزيته للنضال العملي وبانت من خلال يومياتها قوة ومتانة وحدة الصف وكذلك حجم الرعب الهرمي في البناء الفوقي الكوردي، والأدهى هو تلك الجهود التي بذلت في السعي إلى محو ممنهج لهذه الانتفاضة من الذاكرة الشعبية، دون أن نتجاهل جهود بعض الأطر الحزبية التي تحدت ذلك، وباختصار هنا، لا بد من التذكير وبوضوح بخاصية مواقف نظم الحكم على سوريا سايكس بيكو، سيقف الباحثون مستقبلاً أمام مرحلة الأسد الأب والابن ليدخل الأب موسوعة غينيس في تطبيق غالبية المشاريع العنصرية على أرض الواقع والأكثر ممارسة للقمع الممنهج واعتقالات جائرة لسنين طويلة لقادة كورد من دون محاكمات.
ومع نجاح خميني في الاستحواذ على الثورة الإيرانية، ومع تباشير ترجمة فتواه الشهيرة وبدء تسربه إلى سوريا، ومع زيادة جرعات التغلغل حيث ظهرت بيوتات – جمعيات الإمام المرتضى التي نافست حزب البعث وواجهت أذرع الأمن الفولاذية، الأمر الذي أدى إلى خلافات داخل دائرة النظام المغلقة، وعلى الرغم من محاولات حافظ الأسد تغليفها بباطنية شديدة، إلا أنها تواءمت وبوسائل متعددة لتعمل وتتمدد بالتوافق مع وجود وتنامي أنشطة حزب الله في لبنان، هذه المظاهر نمت باضطراد أكثر في مرحلة الأسد الابن حتى مرحلة اغتيال الحريري، ومعها فرض الانسحاب من لبنان وإن بقي للارتباط ما له وما عليه، وبإيجاز شديد لا بد منه هنا أيضاً لدوامة المنطقة، سيما بعد سنين العسل التي جمعت إردوغان والأسد، إلا أن الفوبيا الكوردية كانت وبقيت الحاضر الأبرز في كل البينيات، ولم يشفع سعي أوجلان، لا بل مأسسته لآلية العلاقات مع سوريا وتمركزه في البقاع اللبناني، وكلنا يدرك نمطية تلك العلاقة ووضوحها من جهة والظرف البيني تضاداً لدولتين كان كل منهما يبحث عمن يستطيع خلق عدم الاستقرار لجواره، وعليه يمكن فهم طبيعة تلك الانعطافة التركية الحادة في مسألة أوجلان وانكشاف تهافت وضغط أنظمتها المتعاقبة.
وأخيراً وتحت التهديد العسكري رضخ النظام السوري للشروط التركية، في تجل واضح لتكرار ظاهرة نمط العلاقات السائدة بين الدول الغاصبة لكوردستان، والتي مهما بلغت فيها التحديات سرعان ما يتم تجاهلها لمجرد بروز قوة دفع أو تطور لصالح القضية القومية الكوردية في أي جزء كان من كوردستان، فتتلاقى الرؤى في وحدة عصماء ومسلسلات التآمر لإجهاض أي حلم كوردي، وفي تلخيص مكثف لحركة سياسية تجاوزت الستين سنة من انطلاقتها، أن تكون جميع الأحزاب التي تفرعت منها قد انكشفت على حجم التأثير والتأثر من جهة، وإحالتها بطاقة ممغنطة بعضها لا يزال وبتصميم صريح أن يكشف عن قوة الجذب كقيود تشدها إلى النظام عبر يدها العميقة، مع أنهم وللأسف الشديد يدركون بأن أوان فكفكة بنيان الدولة العميقة قد حان ولن ينفع النظام باطنية إيران المستهدفة أكثر من بين نظم العالم أجمع.