من الصحافة العالمية

كردستان تدفع «فواتير» الاستفتاء… وصراعات أحزابها

جورج سمعان

الحراك في كردستان سيستمر إلى حين موعد الانتخابات البرلمانية في الإقليم. وليس في الأفق ما يشير إلى أن الحزبين الكبيرين سيكرران تجربة الاقتتال التي خاضاها في عقد التسعينات من القرن الماضي. بل إن تعاظم الفوضى في السليمانية، استدعت طلب حزب الاتحاد الوطني من شريكه الغريم الحزب الديموقراطي دعماً أمنياً لضبط الأوضاع والسيطرة على التظاهرات. كما أن تدخل الحكومة الاتحادية يبقى خياراً مستبعداً. يكتفي رئيس الحكومة حيدر العبادي بإطلاق التهديدات. فهو لا يريد توفير أي فرصة تتيح لخصومه النفاذ منها لتقويض سلطته، وسمعته أولاً. فهو يدرك أهمية الصورة التي خلفها انتصاره في قيادة الحرب على «داعش»، وفي كسب المعركة مع أربيل في إطاحة الاستفتاء، والاندفاع نحو السيطرة على جميع المناطق المتنازع عليها وعلى رأسها كركوك، «قدس الكرد» وفق ما كانوا يقولون. فهو الآخر يصر على الانتخابات البرلمانية في عموم العراق منتصف العام المقبل. ويرفض تأجيلها ويراهن على كسبه مع حلفائه وبينهم كرد أيضاً لتجديد ولايته في وجه خصمه المتحفز دائماً نوري المالكي.
في أي حال، إن أي قرار بدفع القوات الاتحادية أو فصائل من «الحشد الشعبي» باتجاه كردستان «سيكون مدمراً»، ويضر بمصالح الكرد والعراق على حد سواء، كما عبر برهم صالح رئيس «تحالف الديموقراطية والعدالة» المنشق عن «الاتحاد». أبعد من ذلك، فإن مثل هذا القرار ليس بيد بغداد وحدها ولا حتى إيران أيضاً. فالأميركيون وغيرهم موجودون في الإقليم. وحتى تركيا لن تسكت على أي تدخل واسع. فهي لم تتردد في زج قواتها بمواجهة حزب العمال الكردستاني في شمال العراق، بعد تدخل الجمهورية الإسلامية دعماً لحليفها حزب الاتحاد منتصف التسعينات من القرن الماضي. ولا يبدو إلى الآن أن ثمة رغبة في أن تتدخل دول الجوار في ما يحصل بين القوى الكردية، ما دامت هذه الفوضى تلحق مزيداً من الضعف بأحزاب أربيل والسليمانية. ولا شك في أن تدخلاً خارجياً سيدفع الكرد إلى توحيد صفوفهم. وهذا ما لا يشتهيه خصومهم في بغداد وفي دول الجوار. ولا شيء يغري الحكومة الاتحادية بالتدخل في هذه المعمعة. فهي تتمتع بموقف قوي وحصدت الكثير من «نتائج» الاستفتاء. ونالت دعماً إقليمياً ودولياً جامعاً لم تكن ربما تتوقعه.
واضح أن الاستفتاء حرك خلافات كامنة ومتراكمة. وهذا واضح في التشتّت الذي أصاب ويصيب صفوف حزب الاتحاد، خصوصاً بعد غياب زعيمه جلال طالباني وتنافس ورثته على الزعامة بين ولديه وأرملته وقيادات حزبية أخرى. لذلك، تركز الحراك في مناطق سيطرة هذا الحزب، وإن وصلت طلائع بعض التظاهرات قريباً من أربيل، حيث قيادة الديموقراطي أكثر تماسكاً، وقبضتها الأمنية أبعد خبرة ومراساً وتشدداً. لذلك، استعانت السليمانية حيث هامش الحريات أوسع، بقوات أمنية من عاصمة الإقليم. فشرطة الاتحاد ضعيفة ومشتتة. وليست جديدة ملاحظة التيارات والأجنحة التي تنخر جسم الحزب. ولا يبدو أن طرفاً منها قادر على الحسم، خصوصاً أن الاتحاد مقبل هو الآخر على مؤتمر عام وانتخابات داخلية. ويقف بافل الابن الأكبر مع والدته ومعه مسؤولون أمنيون على رأس المتشددين، فيما يبدو شقيقه الأصغر قباد أكثر براغماتية في التعامل مع حكومة أربيل برئاسة نيجيرفان بارزاني. وتسعى «حركة التغيير» مع «الجماعة الإسلامية» إلى إضعاف الحزبين. وترجمت وقوفها إلى جانب الغاضبين بالخروج من حكومة الإقليم وتطالب بحكومة انتقالية تشرف على انتخابات مبكرة. وتتهم الوزارة بالفساد وتعمل جاهدة لإسقاط «سلطة الحزبين». وهي عارضت الاستفتاء والتمديد لرئيس الإقليم مسعود بارزاني. وتلقى دعماً من قوى عراقية ومن إيران أيضاً التي تفيد من تشدد هذه القوى لإضعاف الحزب الديموقراطي.
يمكن الكرد، مسؤولين وغير مسؤولين أن يلقوا باللوم على الآخرين، على بغداد وطهران وأنقرة وعواصم دولية بأنها خذلتهم ولم تقف إلى جانبهم في الاستفتاء. لكنهم لا يسألون أنفسهم عن مسؤوليتهم هم في ما آل إليهم وضعهم. قبل إلقاء المسؤولية على الخارج لماذا لا يجرون نقداً ذاتياً داخل كل حزب وقوة، وفي ما بين هذه الأحزاب؟ لو كانت هذه على موقف واحد وراء الاستفتاء لكانت الصورة الآن مختلفة. لكنها تواصل سياسة المكابرة والتشتيت والشرذمة، وعدم الاعتراف بالأخطاء، والانخراط في سباق محموم عشية انتخابات ستجرى مبدئياً بعد ثلاثة أشهر ويمكن خلالها أن يطيح الكرد العاديون المحاصرون في الداخل والخارج بجميع ما حققته فترة «الاستقلال الذاتي» منذ نهاية الستعينات حتى اليوم. المشكلة أن لا أحد من هذه القوى أو الأحزاب يريد الإقرار بأن ثمة فواتير كثيرة يجب أن يدفعها الكرد قبل أن يستقيم الوضع في الإقليم. كان الاستفتاء حدثاً استثنائياً وأخطأوا في التعامل مع هذا الاستحقاق التاريخي. ولم يقدروا حجم الاعتراض الإقليمي والدولي على تغيير الخريطة في الشرق الأوسط. يتصرفون كأن محطة بهذا الحجم طويت صفحتها وباتت من الماضي. وهم يعملون للعودة إلى ما كانوا عليه قبل أيلول (سبتمبر) الماضي. لم يعتبروا من استعادة بغداد السيطرة على كركوك والمناطق المتنازع عليها وتتأهب لاستعادة إدارتها المعابر البرية والجوية. لم يعتبروا من مرارة الحصار الإقليمي وما حرمهم من عائدات.
مستحيل أن تعود عجلة الحوادث إلى الوراء. هناك فواتير كثيرة على القوى السياسية أن تدفعها. فواتير اقتصادية أولاً. فالشعب الكردي ينتظر الرواتب، ولا شك في أن حكومة بغداد تتمهل في تنفيذ وعودها بتوفير الأجور لأهل الإقليم. إنها ترغب في مفاقمة خسائر الكرد التي تتيح لها حصد مزيد من الدعم في بقية المحافظات العراقية، ومن جانب الجيران أيضاً. وهناك فاتورة سياسية على القوى السياسية الكردية كلها المساهمة في دفع ثمنها من شعبيتها. فالحوادث الأخيرة أثبتت أن هذه القوى فشلت في بناء «الدولة» أو في تقديم نموذج جاذب، سواء كان حكماً ذاتياً أو دولة. فالفساد المستشري عم العراق بأكمله. وكذلك المحاصصة التي تحولت في الإقليم تفرداً في توزيع الثروة، وباعدت بين الحزبين الكبيرين. وعلى رغم ذلك، لا تزال التجاذبات الانتهازية حادة للإفادة من خطأ هذا الحزب أو ذاك، بدل التلاقي من أجل إيجاد السبل التي توفر للشعب حاجاته الضرورية من خدمات وأمن وغير ذلك. صحيح أن الاستفتاء عمق الانقسام بين الأحزاب، إلّا أن هذه تواصل بمواقفها توسيع الهوة وضرب الجسور. ومع استمرار هذه الحال لن تقوم لكردستان قائمة. كان الشعار الذي رفعه المنادون بالاستفتاء أن بغداد ترفض الشراكة، وأن العراق ينتقل تدريجاً إلى دولة دينية مذهبية. والحال اليوم، أن بغداد حرمتهم «نعمة» عائدات النفط. وتسعى إلى مشاركتهم عائدات المعابر والمطارات، واستعادة السيطرة على المناطق المتنازع عليها!
من هنا، لا يمكن التفاؤل بقدرة حكومة الإقليم على استجابة مطالب ناسها العاديين، بصرف النظر عمن يحرك هؤلاء، سواء كانت «حركة التغيير» أو «الجماعة الإسلامية. وإذا كان الحراك يتصاعد أكثر في «ملعب» حزب الاتحاد فيما تبدو «ساحة» الحزب الديموقراطي أكثر تماسكاً، فإن ما يصيب شطراً من الإقليم سيترك آثاراً مدمرة على الشطر الآخر. فلا معنى لكردستان منقسمة على ذاتها. وعلى جميع أحزاب الإقليم أن تدرك أن الكرد ينشدون التغيير مهما قيل عن استغلال هذه القوة أو تلك لحراكهم العنيف. فهل ستتمكن من تطويق هذه الفوضى وأعمال العنف بموقف موحد تلتقي عليه بعيداً من عشائريتها ومصالحها الضيقة وارتباطاتها الخارجية؟ أم إنها ستجد نفسها في الانتخابات البرلمانية القريبة أمام تحديات ونتائج قاسية تزيد من شرذمتها وتدخلات الجيران القريبين والبعيدين؟ أما إذا تمكنت هذه القوى من إعادة إنتاج النظام السابق ذاته على قواعده التقليدية بتقاسم السلطة وتوزيع المقاعد، فإنها ستظل قاصرة عن توزيع «الغنائم» كما كانت الحال قبل الاستفتاء. عقارب الساعة لن تعود إلى الوراء. وموازين القوى، السياسية والعسكرية والاقتصادية، بين بغداد وأربيل اختلت تماماً لمصلحة عاصمة البلاد. وسيبقى الإقليم إلى أمد بعيد في حضن العراق حتى سداد جميع فواتير الأخطاء التي ارتكبها قادته.

الحياة

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عــن رأي Yekiti Media

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى