كركوك اختارت الانضواء في مغامرة الاستفتاء والاستقلال… و«البريكست الكردي» لن يكون سهلاً
Yekiti Media
غسان شربل…. زارت بلاد العلمين والآبار والهويات والألغام وسألت عن موقفها من الامتحان العراقي الوشيك
أرتدي عيني مراسل أجنبي وأجول في شوارع كركوك. هذا دكّان كردي. وهذا مطعم عربي. وذاك مكتب تركماني. في شارع واحد يمكنك الالتقاء بهؤلاء الذين يشربون من منابع مختلفة، وحكمت عليهم الجغرافيا بالعيش على أرض واحدة بين التباسات الجغرافيا وأحقاد التاريخ. انتماء غالبيتهم العظمى إلى الإسلام لم يعتقل أحلامهم القومية المتضاربة ولم يبدد مخاوفهم.
الوضع الأمني في كركوك معقول ومقبول. وأفضل مما هو عليه في محافظات عراقية أخرى. انحسر الخوف من اختراقات واسعة يمكن أن يسجّلها تنظيم داعش، لكن ذلك لا يلغي احتمال التعرض لمفاجأة على يد «خلية نائمة» أو «ذئب متوحد». ولا مبالغة في القول إن «البيشمركة» نجحت في إنقاذ كركوك من أحلام «داعش» بعد سقوط الموصل في يونيو (حزيران) 2014، خصوصاً أن الجيش العراقي أصيب يومها بحال من التفكك والضياع. وسيترك هذا الإنقاذ بصماته على عملية رسم مستقبل محافظة كركوك.
مشكلتان عقّدتا حياة هذا الجزء من العراق. تركيبة متعددة الأعراق والقوميات والمذاهب. وثروة من النفط يحتاجها الحلم الكردي بالدولة، وهو ما يدفع بغداد إلى التمسك بتجريد الحلم منها (تنج محافظة كركوك نحو نصف مليون برميل يومياً).
لا يتذابح أبناء كركوك في الشوارع. والإشكالات بين أبناء القوميات تضبطها الشرطة وحكمة مجلس العشائر. لكن وراء النوافذ المغلقة تبقى كركوك معلقة بأكثر من علامة استفهام. إنها منطقة تائهة في ذاكرة المكونات وتقيم على خط التماس بينها كما تنام مدينة على خط الزلازل.
لا تحتاج القصة إلى تفاصيل كثيرة. تسأل الكردي العابر فيبدي حماسة للاستفتاء والاستقلال. وتسأل البائع العربي فيرد أن الأمر متروك للسياسيين. ولا مبالغة في القول إن التركماني يتساءل دائماً عما إذا كانت تركيا لا تزال قادرة على توفير المظلات والضمانات. وإذا دققت في الإجابات تستطيع معرفة العربي الشيعي من السني، والأمر نفسه بالنسبة إلى التركماني.
– «عقدة كركوك»
لا يمكن قراءة قصة العراق في العقود الماضية من دون الالتفات إلى ما بات يعرف بـ«عقدة كركوك». يعجز الأكراد عن استرجاعها ولا يجرأون على التنازل عنها، تماماً «كما حال الفلسطينيين مع القدس». في ساحة كركوك تذكرت كم سمعت عن تلك العقدة التي أدت أكثر من مرة إلى انهيار اتفاقات الحكم الذاتي واندلاع مواجهات مدمرة.
ذات يوم حكى لي الرئيس جلال طالباني، شفاه الله، أن طارق عزيز وزير الخارجية العراقي الراحل قال له بصورة جافة وحازمة: «ليس لكم في كركوك إلا حق البكاء عليها».
وفي عام 1991 استقبل صدام حسين مسعود بارزاني الذي قال له: «جئتك سابحاً في بحر من الدم». في بداية اللقاء الصعب، أدخل عامل كأسين من الشاي. قام صدام سريعاً بتبديل الكأسين لطمأنة الضيف أن لا سم في الكأس الأول الذي أعطي له. لكن لدى التطرق إلى أوضاع كركوك قال صدام: «أنا لا أنكر أن كركوك كردية لكننا لن نعطيكم إياها لأنها قاعدة جاهزة لإعلان دولة».
رواية إضافية حول الموضوع وهذه المرة من محافظ كركوك الحالي الدكتور نجم الدين كريم، نقلاً عن صديقه جلال طالباني. وتقول الرواية إن طالباني وبصفته رئيساً للاتحاد الوطني الكردستاني توصل إلى اتفاق مع صدام حسين على حل شامل يقضي بتقسيم إقليم كركوك بين بغداد وأربيل.
وتضيف الرواية أنه في اليوم المقرر لتوقيع الاتفاق حضر عزة الدوري، نائب رئيس مجلس قيادة الثورة، ليقول إن التوقيع غير ممكن، وليكشف أن تركيا أوفدت إلى صدام رئيس أركان جيشها، ومارست ضغوطاً لإحباط الاتفاق.
وثمة من يعتقد أن «عقدة كركوك» قتلت العراق. فهي كانت السبب في الحرب التي اندلعت بين نظام البعث والأكراد في 1974. وكانت السبب الذي جعل صدام يتنازل عن أراضٍ عراقية لإيران في 1975. وكان غسل تلك الخطيئة بين الأسباب التي دعته في 1980 إلى إطلاق الحرب ضد إيران.
غداة الغزو الأميركي للعراق روى لي سياسي عراقي عربي قصة مؤلمة وطلب مني عدم نشرها. قال: «كان الرئيس عبد السلام عارف يكره الأكراد، ويصر على اعتبارهم عرباً ليتفادى الاعتراف بخصوصيتهم وحقهم في الاختلاف وممارسة الحكم الذاتي أو ما هو أكثر». وأضاف: «كنا في جولة في شمال البلاد، وكانت الاشتباكات بين الجيش والبيشمركة قد بدأت. فجأة أحضر العسكريون شاباً كردياً قالوا إنهم اعتقلوه في منطقة غير بعيدة. عبّر عبد السلام عن انزعاجه بحركة متوترة من يده. استنتج العسكريون أنه يقول لماذا جئتم به حياً. أخذ العسكريون الشاب الكردي إلى منطقة وراء الأشجار وقتلوه. أخطأ الأكراد كثيراً لكن نحن أيضاً ارتكبنا الكثير. لكن رجاء لا تنشر هذه القصة باسمي وأفضّل ألا تنشرها على الإطلاق».
– زحمة هويات
يتألف مجلس محافظة كركوك من 41 عضواً انتخبوا في 2005. بعد هذا التاريخ تعذّر إجراء انتخابات جديدة بسبب الشروط التي يضعها العرب والتركمان حول كيفية إجراء أي انتخابات جديدة. استمر المجلس بحكم الاستمرار. قبل وصولنا إلى كركوك كان المجلس اتخذ في اجتماع حضره 24 عضواً قراراً بتأييد طلب المحافظ أن تكون كركوك مشمولة بالاستفتاء الذي دعا إليه رئيس إقليم كردستان في 25 من الجاري حول استقلال الإقليم. وكانت مقاطعة العرب والتركمان واضحة لتلك الجلسة. وقبل فترة أقر المجلس أيضاً برفع علم الإقليم إلى جانب علم العراق في المحافظة.
في السبعينات أجرى صدام حسين جراحة لمحافظة كركوك أخرجت منها أقضية ذات غالبية كردية وأضافت إليها ناحية الزاب ذات الأكثرية العربية. المساحة الحالية للمحافظة هي 9500 كيلومتر مربع، أي ما يقترب من مساحة لبنان.
لا وجود لإحصاء حديث للسكان، لكن عددهم يقدّر استناداً إلى نتائج الانتخابات والبطاقة التموينية. واستناداً إلى ذلك يشكل الكرد نحو 54 في المائة، والعرب نحو 33 في المائة، والتركمان نحو 13 في المائة. في السبعينات كان المسيحيون يشكلون نحو 5 في المائة وهم اليوم نحو واحد في المائة. استقبلت كركوك، إضافة إلى هؤلاء، مسيحيين لجأوا إليها بعدما تبخّر وجودهم في أماكن روعتها «القاعدة» أو سيطر عليها «داعش».
يشكّل الشيعة نحو 60 في المائة من تركمان كركوك. ولقسم منهم علاقات بالأحزاب الشيعية في بغداد وإيران. والفريق الأوسع تمثيلاً لدى السنة هو «الجبهة التركمانية» التي تتأثر بالموقف التركي. العرب الأصليون في المحافظة غالبيتهم من السنة، أما العرب الذين استقدموا في إطار عملية التعريب في عهد صدام فمعظمهم من الشيعة.
تستضيف محافظة كركوك حالياً نحو نصف مليون لاجئ عراقي. ويقول مسؤولون في المحافظة إن «الحشد الشعبي» لا يزال يمنع اللاجئين السنة من العودة إلى أماكن إقامتهم الأصلية في بيجي وجرف الصخر وحزام بغداد.
المعطيات التي سبقت تعقّد مشاركة محافظة كركوك في استفتاء الاستقلال، وتنذر بتوترات في حال إعلان الدولة. ربما لهذا السبب يطرح المحافظ في لقاءاته مع المسؤولين الغربيين والدوليين أن تشكل محافظة كركوك إقليماً مؤقتاً لمدة أربع أو خمس سنوات، يتم خلالها التطبيع والإحصاء وتوفير الضمانات والتطمينات للعرب والتركمان، ثم اتخاذ القرار النهائي حول مستقبل العلاقات مع إقليم كردستان وبغداد.
– «صعوبة العيش مع بغداد الجديدة»
كان يجب حل مشكلة كركوك في 2007 استناداً إلى ما نصت عليه المادة 140 من الدستور العراقي حول المناطق المتنازع عليها وعلى قاعدة التطبيع والإحصاء والاستفتاء. لكن تطبيق الدساتير ليس مضموناً في هذا الشرق الأوسط الرهيب. اهتز عراق ما بعد صدام على وقع التفجيرات والمواجهة السنية – الشيعية، وعادت العلاقات العربية – الكردية إلى التدهور في عهد نوري المالكي، خصوصاً بعدما اتخذ قراراً بوقف رواتب الإقليم، وأي تحويل للميزانية المقررة له في إطار الميزانية العراقية وبذريعة الخلاف حول تصدير النفط.
ويسمع الصحافي الزائر من بعض وجهاء كركوك أسباباً أخرى. بينها اعتقاد الأكراد أن بغداد تتجه إلى العيش في ظل «نظام ديني – طائفي»، وأن الأكراد يصرون على العيش في ظل دولة مدنية تساوي بين المكونات في الحقوق والواجبات. وثمة من يلمح إلى أن «قسماً كبيراً من قرار بغداد صار في طهران، في حين أن الأكراد يصرون على أن يكون قرارهم في أربيل».
– عشائر وتمنيات
في مجلس عشائر كركوك تغلب التمنيات الطيبة على كلام الحاضرين. الشيخ عثمان عبد الكريم آغا، رئيس قبيلة الزنغنة في العراق ورئيس مجلس حكماء كركوك، يشدد على أن مدينة كركوك هي «مدينة التآخي والمحبة والسلام»، وأن القيم العشائرية تستند إلى الأخلاق، وتمنع التفرقة والتمييز. وقال: «أنا كردي ولكنني لا أقبل أن أحصل على حقوقي فيما تنتهك حقوق الآخرين. أريد أن نعيش جنباً إلى جنب في دولة اتحادية تعددية توفر العدالة والمشاركة للجميع». ويشير إلى أن مبادئ الأمم المتحدة تعطي الشعوب حق تقرير المصير واللجوء إلى الاستفتاء لمعرفة موقف الناس. ويسجل أن الحكومة العراقية انتهكت نحو خمسين فقرة من الدستور.
أحد شيوخ العشائر من العرب، شدد على التعايش، وقال إن الوضع في كركوك أفضل منه في المحافظات العراقية الأخرى، لكنه ترك الكلام في السياسة للسياسيين، مفضلاً حل المشاكل بين الناس بموجب الأعراف المحلية.
لفتتني جملة سريعة قالها أحد الشيوخ العرب الحاضرين وهي: «أفضل أيام العراق كانت قبل الستينات». سألته إن كان يقصد العهد الملكي، فرد بالإيجاب.
شربنا القهوة مع شيوخ العشائر الذين بدوا شديدي الحرص على مفردات التعايش والتعاون، تاركين للأحزاب مهمة كشف المخاوف والانقسامات.
لا يكفي أن تنتصر الـ«نعم» في الاستفتاء، فمرحلة ما بعد الانتصار ستكون صعبة ومعقدة. لا بد من مفاوضات صعبة مع بغداد لضمان نجاح الـ«بريكست» الكردي من العراق، وهو أصعب من الـ«بريكست» البريطاني من الاتحاد الأوروبي. لا بد من مفاوضات شاقة حول الحدود والميزانية وديون العراق الحالية، ومستحقات الإقليم المجمدة، والتمثيل. ولا تبدو بغداد جاهزة لتجرع مراسم الوداع، خصوصاً أن ردود فعل قادة في «الحشد الشعبي» تثير المخاوف من مواجهة محتملة بينهم وبين البيشمركة في بعض المناطق المتنازع عليها. وستوقظ هذه المواجهة في حال اندلاعها مشاعر التضامن لدى الأكراد الموزعين في الدول المجاورة للإقليم.
هل تسمح تركيا بولادة دولة كردية على حدودها؟ القول إن صادراتها إلى الإقليم تبلغ 8 مليارات لا يكفي لتوقع معارضة خجولة من جانبها. أما إيران فهي تملك بلا شك أوراقاً للضغط على التطورات بينها أوراق كردية خصوصاً في منطقة السليمانية. ولا تخفي طهران معارضتها القاطعة للاستفتاء والاستقلال، وربما تتخوف من تأثير النموذج المتوقع في شمال العراق على أكرادها. أما سوريا فهي تدرك بلا شك أن أكرادها لن يقبلوا على طاولة المفاوضات، حين تُعقد، أقل من «إدارات ذاتية» لمناطقهم.
نصحت واشنطن أكراد الإقليم بإرجاء موعد الاستفتاء إلى ما بعد الانتخابات العراقية المقررة العام المقبل. قالت إنها تريد التركيز الآن على الحرب على «داعش». وثمة من يعتقد أنها تتخوف من أن يؤدي الاستفتاء إلى إضعاف فرص حيدر العبادي في الاحتفاظ بمنصبه بعد الانتخابات. لكن الأكراد الذين تعبوا من لعبة التأجيل والانتظار اشترطوا للتأجيل ضمانات يتعذر على واشنطن توفيرها.
– هل فشل العراق؟
يندفع العراق نحو استحقاق سيشكل منعطفاً مهماً في تاريخه وتاريخ المنطقة معاً. هذه المرة لا يمكن تحميل صدام حسين المسؤولية، فالرجل ينام في قبره. لا يمكن التذرع بما ارتكبه صدام للتهرب من المسؤولية. قبل إطاحة صدام قال المعارضون العراقيون إن المستبد هو المشكلة الوحيدة، وإن العراق بعده سيكون ديمقراطياً وفيدرالياً، ودولة منشغلة بإعادة الإعمار واحتلال موقعها الطبيعي في المنطقة. ذهب العراقيون إلى صناديق الاقتراع وعادوا منها بنتائج أعقبتها ممارسات أضعفت التماسك الوطني الهش أصلاً.
لم يعد ممكناً تعليق الفشل على شماعة صدام حسين. عراق ما بعد صدام فشل هو الآخر. تمزقت العائلة العراقية على أيدي الصقور. ثمة من يخشى أن يكون العراق نفسه فشل، وأن خرائط أخرى ستقر بفشلها مهما تأخرت في الاعتراف.
ما أصعب أن تكون صحافياً عربياً في هذا الشرق الأوسط الرهيب.