كوباني وغزّة: محنة مدينتين
هوشنك أوسي
هنالك وحدة حال بين الشعبين الكردي والفلسطيني في ما يخصّ الظلم والقمع والمجازر، وإرادة المقاومة والإصرار على المضي في النضال لنيل حقوقهما المغتصبة، فضلاً عن الانقسام السياسي الكارثي، وتورّط المجتمع الدولي والإقليمي في محنتهما.
ومنذ انطلاقة حركة التحرير الوطنيّة الفلسطينيّة ضد إسرائيل، انخرط الآلاف من الشباب الكردي، خصوصاً منهم السوريين والعراقيين في الفصائل والمنظمات الفلسطينيّة وسقط منهم المئات شهداء دفاعاً عن القضيّة الفلسطينيّة. في المقابل، لا يوجد فلسطيني واحد انخراط في الأحزاب الكرديّة وحمل السلاح ضدّ النظام العراقي السابق أو تركيا أو نظام الأسد الأب، لردّ الجميل، ولم يطالبهم الكرد بذلك، لكن أقلّ المطلوب كان ألّا تنظر النخب السياسيّة والثقافيّة (مع استثناءات قليلة جداً)، إلى قيام دولة كرديّة في الشرق الأوسط على أنها «إسرائيل ثانية»!
حين يسمع الكردي من مثقف وأكاديمي فلسطيني معروف كلاماً يعتبر فيه دخول البيشمركة الكرديّة إلى كركوك «احتلالاً، تحقيقاً لأوهام تاريخيّة»! وحين يرى الكرديُّ المواطنَ الفلسطيني، يأتي من فلسطين ولبنان وسورية وأوروبا، ليقاتل الكرد ضمن «داعش» و «النصرة»، فهل من الغرابة أن يشعر بالخيبة والخذلان؟ فهذا أقلّ ما يُقال فيه إنه «نكران جميل» وإهانة للدماء الكرديّة التي أريقت في سبيل القضيّة الفلسطينيّة.
منذ أشهر، والإرهابيون التكفيريون يحاصرون مدينة كوباني الكرديّة على الحدود التركيّة – السوريّة، وهي تقاوم غزوات «داعش» بأسلحة خفيفة، قياساً إلى الأسلحة الثقيلة (دبابات، مدفعيّة ثقيلة، سيارات مفخخة، وانتحاريين…) التي حصل عليها «داعش» من الجيش الأسدي و «الجيش الحر» والجيش العراقي، بينما لم يصمد جيش نوري المالكي، المدجج بالأسلحة الأميركيّة المتطوّرة أمام «داعش» لأيّام! منذ أشهر والمقاتلون والمقاتلات الكرد، المحسوبون على حزب العمال الكردستاني، وفرعه السوري، حزب الاتحاد الديموقراطي، يقاومون الغزو «الداعشي» وحدهم، بإمكانات متواضعة، وهنالك حالة صمت إعلامي عربي مطبق. بل ثمّة تشويه لهذه المقاومة الكرديّة الباسلة. ففي الصحافة وقنوات التلفزة ومواقع التواصل الاجتماعي العربية، لا تضامن عربي أو فلسطيني مع محنة كوباني، فيما أعلن كثر من المثقفين والكتّاب والساسة الكرد السوريين تضامنهم مع مدينة غزّة، وشجبهم واستنكارهم الشديد للعدوان الإسرائيلي الوحشي عليها!
والغريب أنه بدلاً من أن يتّجه المقاتلون العرب والأجانب، والفلسطينيون خصوصاً، إلى فلسطين، لردّ العدوان البربري الإسرائيلي، نراهم يتّجهون نحو كوباني والمناطق الكرديّة لمحاربة الكرد!
الفلسطيني واللبناني والسوري، وسط محنهم، وكذلك الليبي واليمني والمصري والسوداني… لا يسترعيهم بؤس أوضاعهم وحال بلدانهم، بل تضيق أعينهم بأن يدير الكرد أمورهم في مناطقهم السوريّة، وأن يفكّر كرد العراق بالانفصال عن العراق، بحجّة الحرص على وحدة الأمّة العربيّة؟!
والكردي يتساءل: ما الذي فعله حتى يتعاطى شريكه العربي في التاريخ والجغرافيا معه بهذه الطريقة المخيّبة؟! هل هو السبب في ما يجري من صراع بين «فتح» و «حماس»، أو في باقي البلدان العربية؟ ثم ما هي أفضال هذه البلدان وأنظمتها، ونخبها الحاكمة والمعارضة، على الأكراد، حتى يُنظر إليهم نظرة السيّد القلق من تحوّل عبيده نحو الانعتاق والتحرر منه؟!
صحيح أن كثراً من النخب الثقافيّة والسياسيّة الكرديّة السوريّة غير راضين عن سياسات وممارسات حزب الاتحاد الديموقراطي القمعيّة، وينتقدونها بشدّة، إلّا أنهم يقفون إلى جانب مقاتليه ضدّ «داعش»، ليس وفق العبارة العربيّة «أنا وأخي على ابن عمي…»، بل عن قناعة مفادها: «جحيم هذا الحزب السوري الأوجلاني، ولا جنّة داعش».
وصحيح أن الكثيرين من الكرد غير مرتاحين للإسلام السياسي، وتفريخاته المعتدلة والمتطرّفة، إلّا أنهم مع غزّة ضدّ همجيّة إسرائيل ووحشيتها، فيما الكثير من الإخوة العرب (وليس كلّهم طبعاً)، سرّاً أو جهراً، يمنّون النفس بأن يسيطر «داعش» على كركوك وكوباني وكل كردستان، كرهاً بالكرد، لا حبّاً بـ «داعش»!
وبعد ذلك، يحدّثونك، بغزارة وحرقة ومرارة، عن الأوطان والكيانات الوطنيّة والمواطنة، وضرورة أن يكون اندماج الكرد ضمن هذه «الكيانات الوطنيّة» خيارهم الوحيد، في العراق أو سورية! وما إن يعبّر الكردي عن تحفّظه أو شكوكه بهذه السرديّات العربيّة حتّى تبدأ العين الليبراليّة المعتدلة بالاحمرار مثلها مثل العين القوميّة والإسلاميّة المتطرّفة!
فإذا كانت هذه حال النخب العربيّة، مع استثناءات قليلة، فلا عتب على العوام.
الحياة