كيف تحتكر الأنظمة المستبدة الثقافة؟
بهجت شيخو
يعتبر موضوع الثقافة من المواضيع الهامة في ميادين عدة، كعلم الاجتماع و علم النفس و السياسة و غيرها، و ذلك لأنها تمثّل روح المجتمعات و أنماط حياتهم و انفعالاتهم اليومية، فهي تعتبر المدخل الأساسي والضروري لفهم الإنسان من جميع جوانبه النفسية و الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية و الدينية … إلخ، فبوساطتها يكتسب الإنسان جانباً هاماً من شخصيته، وعن طريقها يميّز بين مجتمع وآخر ( 1 )
فالثقافة إذ تنتجها المجتمعات أو تنشئها أو حتى يمكن استيرادها من منابع اجتماعية مختلفة، حيث تجد لها مكاناً في بقع اجتماعية معينة, فتعبّر عن نفسها عن طريق السلوك الاجتماعي للأفراد أو المجتمعات و من ضمنها السلطات وفق نماذج مختلفة كالعادات والتقاليد والأعراف و مفاهيم الحكم و السلطة و غيرها.
تتميّز كلّ مرحلةٍ من مراحل البشرية بنوعٍ معين من الثقافات, و ذلك وفق طرق الأنماط المعيشية و الاقتصادية و طريقة العمل المجتمعي, كما كان لكلّ سلطةٍ أو إمبراطورية نوع معين من الثقافة تدير بها شؤون البلاد و الرعية.
و بدون شك يلاحظ هناك تفاوتاً واضحاً في مفهوم الثقافة بين المجتمعات المتقدمة و المجتمعات المتخلفة, إذ استطاعت الأولى التخلص من المفاهيم الرجعية و البالية, ووصلت بمجتمعاتها إلى أعلى النماذج من التطور الذهني و الديمقراطي و غيرهما، بينما الثانية ما زالت تحافظ على موروث الثقافات الرجعية, و تمنع بروز ثقافات متقدمة و ذلك للمحافظة على مصالحها الخاصة.
و في هذا السياق و رغم التباين في ثقافة المجتمعات بين منطقةٍ و أخرى إلا أنّ معظم الأنظمة المستبدة في الشرق الأوسط و العالم تتفق على جملة مفاهيم ثقافية مشتركة, الهدف منها التركيز على فرض أدوات قمع لديمومة سلطاتها و نشر نوعٍ معين من الثقافة التبعية على شعوبها و مناهضة كلّ الثقافات التي قد تتسرّب إليها من هنا أو هناك، و هذا يعني أنها تقوم باحتكار أنواع معينة من الثقافات و تبقي فقط على الثقافات التي تناسب مقاساتها.
إذاً ماهي أهم الثقافات التي تفرضها السلطات الاستبدادية و بالقوة على مجتمعاتها؟ يمكن إيجازها كالتالي:
1 – ثقافة الزعيم أو القائد ( عبادة الشخصية ): و تنعت بأكثر من صفة كالأخ أو الرفيق أو الفاتح و غيرها و تأتي هذه الثقافة في سياق تثبيت منع التفاعل مع أي نوعٍ آخر من الثقافات ؛ كون القائد هو الذي يعلم بكلّ شيء في الطبيعة, و ما وراء الطبيعة، فترى صور القائد في كلّ مكان بدءاً من الشارع وصولاً إلى غرف النوم، فأي إساءة إلى القائد يعتبر كفراً و تستوجب المحاسبة!
فهذه الثقافة ثقافة ( عبادة الفرد ) تجعل من الفرد و المجتمعات أدوات سهلة بيد شخص ( زعيم ) أو أشخاص السلطة و قد يستمرّ لعشرات السنيت مما يفرز نوعاً معيناً من ثقافة الخوف و الانحطاط السايكولوجي للمجتمعات .
2 – ثقافة التهديد الخارجي: ترى الأنظمة المستبدة أن تزرع في عقول مجتمعاتها نوعاً من التهديد أي أنَّ هناك خطر ما أو مؤامرات دوماً تهدّد الوطن, و تهدّد وجوده؛ لذا تقوم بفرض حالات الطوارئ ؛ مما يسهّل عليها قمع ثقافة الجمع المجتمعي التشاركي, ناهيك عن حالات قمع الأفراد و يتجسّد ذلك من خلال استئصال الأحزاب المناهضة و الإعلام المعارض, و بهذا تستولي على كلّ النقابات و الجمعيات و الفعاليات المجتمعية الأخرى و تسخّرها لتتماشى مع أهدافها التسلطية.
3 – ثقافة العسكرة: تحاول الأنظمة الاستبدادية عسكرة مجتمعاتها بقدر كبير و تكوين جيوش و ميليشيات للدفاع عمّا يسمى ب ( الوطن ) لذا تنتشر هذه الثقافة بين الأوساط الشعبية و خاصةً الفقيرة و المسحوقة منها لتتراكض إلى طوابير التطوع متيقنة بأنّ الجيش أو الأفرع الأمنية هي طوق النجاة لهم و لعائلاتهم, و قد يصل تعداد الجيش في بعض هذه البلدان إلى أكثر من ربع سكانها و بذلك يكون هذا النظام الاستبدادي أو ذاك قد أمن وضمّن ولاء شريحة لا بأس بها لأنه بالأساس يكون العسكري مسلوب الإرادة و من مبدأ ( نفذ ثمّ اعترض ) هذا إذا كان بإمكانه الاعتراض أصلاً .
4 – ثقافة تكوين الشباب الثوري: تولي الأنظمة الاستبدادية هذه الفئة و من ( الجنسين ) اهتماماً كبيراً و تقوم بتدريبها في المدارس و أماكن خاصّة تحت يافطة الشباب الثوري, و ذلك لكسب ولائهم المطلق و القضاء على العادات المغروسة في الأسرة لذا يدفعونهم إلى حمل السلاح , و أحياناً يغرّر بهم بمظاهر سلبية كالمخدرات و الجنس و غيرهما .
5 – ثقافة تحرير المرأة: تدرك الأنظمة المستبدة دور المرأة في الحياة العامّة كونها تشكّل نصف المجتمع لذا تحاول استغلالها من خلال شعارات زائفة عن التحرير و التحرر من عبودية الرجل، فتقحمها في أعمال عسكرية و استخبارتية و تبعدها عن مفهوم الأسرة بحجة الحرية, و ترمي بالكثير منهن في براثن لا أخلاقية و الهدف منه تحطيم شخصية المرأة .
و في الخلاصة تحتكر الأنظمة الاستبدادية و الأحزاب الشمولية كلّ الثقافات عموماً كما غيرها من السلطات و الثروات و الإعلام, و لا تفسح المجال لبروز ثقافةٍ سياسية قد تهدّد وجودها، إلا أنه و كما كلّ النظم الاستبدادية لا بدّ أن تترهّل و تنتهي بالسقوط ،و لكن هنا يتبادر إلى الذهن هذا السؤال: بعد فرض تلك الأنظمة و خلال كلّ هذه السنوات ثقافة مريضة و مزمنة على مجتمعاتها, فهل سنجد أدوات و عوامل لإنتاج ثقافة جديدة؟
و الجواب نعم و لكن ربما تحتاج لوقتٍ طويل في التصميم و الترميم !.
المصدر :
( 1 ) التعريف : من دراسة لموقع ستار شمس في 15 / 9 / 2022 بعنوان ( الثقافة مفهومها ، تعريفها ، نظرياتها ، خصائصها )
المقال منشور في جريدة يكيتي العدد ” 307″