لا بد من استراتيجية موحدة في غرب كوردستان
جان كورد
يقع اقليم غرب كوردستان في شمال سوريا، ويمتد من الحدود العراقية – السورية شرقاً إلى حدود لواء إسكندرون الفاصل بينه وبين البحر الأبيض المتوسط غرباً، وعليه فإن هذا الإقليم، الذي لا يقل عن لبنان مساحةً وسكاناً يقع على خط التماس بين ما يمكن تسميته بإقليمي الجبل والسهل في المنطقة، أو بين الطين والرمل، ويعتبر هاماً للغاية لعدة أسباب، منها أنه يفصل بجغرافيته وديموغرافيته ذات الأكثرية الكوردية كمنطقة تابونية بين دولة تركيا العضو في حلف الناتو والشعوب العربية، كما يفصل كامتدادٍ طبيعي لإقليم جنوب كوردستان (كوردستان العراق!) بين إيران والبحر الأبيض الذي طمحت الإمبراطورية الفارسية عبر العصور باستمرار في السيطرة على سواحله الغربية وسعت للوصول إليه بشتى السبل والمغامرات العسكرية، ولا يزال طموح ملالي إيران في ذلك قوياً، وذلك بهدف إكمال بناء الهلال الشيعي الكبير في الشرق الأوسط، حيث يصطدم هذا الطموح الفارسي التوسعي الذي يرتدي عباءةً مذهبية بالتطلعات القومية للشعب الكوردي المختلف إلى حدٍ كبير من الناحية العقيدية عن الشيعة وكذلك يصطدم بالمذهب السني الذي عليه غالبية الشعب السوري، الذي يعتقد بأن بلاد الشام من أهم قلاع السنة تاريخياً ويجب أن يظل هكذا إلى آخر الزمان.
إقليم غرب كوردستان يتألف من ثلاث مناطق هي الجزيرة الغنية بالنفط والمنتوجات الزراعية والحيوانية وبكثافة سكانية عالية من الشباب الباحث عن العمل، ومنطقة (كوباني) القريبة من سد الفرات ومن مدينة حلب، إحدى أكبر المدن السورية، من ناحية الشرق، وهي غنية أيضاً بالثروة الحيوانية والزراعية، وكذلك منطقة (جبل الأكراد) التي تقع على بعد 60-70 كيلومتراً غرب حلب، وتتميز بجمال طبيعتها وجوها اللطيف وتعتبر من أهم مناطق زراعة أشجار الزيتون وإنتاج الزيت في سوريا، وفيها مخزون مائي كبير، وهي مشهورة بصفائها القومي الكوردي بشكلٍ يكاد يكون تاماً، إلا أن النظام البعثي قام بكل ما يمكنه القيام به لتغيير التركيبة الديموغرافية لهذه المنطقة منذ استيلائه على الحكم عنوةً في عام 1963 بانقلابٍ عسكري ومحاولته تعكير صفو العلاقات التي كانت قائمة بين الشعبين العربي والكوردي بانتهاجه سياسة اقصاءٍ وتمييز وتعريب لا تطاق لعقودٍ طويلةٍ من الزمن ضد كل ما هو كوردي وبخاصة من الناحية الثقافية. وهذا التكوين القومي الصرف للمنطقة قد ساعد بشكلٍ قوي في تنامي الوعي القومي، ونمو الحركة السياسية الكوردية فيها، على الرغم من بعدها الجغرافي عن مراكز الثورات في كوردستان، في حين أن منطقة الجزيرة قريبة من تلك المراكز في كل من شمال وجنوب كوردستان وشاركت منها عوائل وعشائر هامة في الثورات الطامحة إلى حرية الكورد واستقلال كوردستان بشكل مباشر وفعال، كما أن منطقة (كوباني) المتاخمة لسهل سروج في شمال كوردستان قريبة نسبياً من مدينة آمد (ديار بكر) التي شهدت على الدوام انتفاضات ثورية وكانت مركزاً للنشاط القومي في شمال كوردستان.
كان إقليم غرب كوردستان مهملاً في الرأي العام العالمي عقوداً من الزمن، ولذا فإن نظام العائلة الأسدية والبعث العربي الفاشي قد نفّذا كل ما كان في حوزتهما من مشاريع عنصرية في غياب أي مراقبة دولية لانتهاكات حقوق الإنسان ولإنكار حق تقرير المصير للشعب الكوردي في هذه المنطقة من الشرق الأوسط، فشملت سياسة الاقصاء والتمييز والانكار والتعريب كل مناحي الحياة الثقافية والسياسية للشعب الكوردي، دون أي معارضةٍ وطنية أو إقليمية أو دولية تذكر، ووصل استهتار النظام بحقوق هذا الشعب إلى درجة المكافحة الشاملة لشتى أنواع النشاطات القومية له، وتم الاستيلاء على أراضي الكورد لتوطين قبائل عربية (من منطقة الغمر الناشئة عن بناء سد الفرات) عوضاً عنهم في أكثر من 40 مستوطنة مدججة بالسلاح وبشتى صنوف الدعم المادي والمعنوي لتكون قادرة على التوسع على حساب الكورد وعلى أرضهم. وتم تجريد مئات الألوف من الجنسية السورية، وتطبيق سياسات في غايات العنصرية (الحزام العربي والاحصاء الاستثنائي والتعريب الشامل) ضد الإنسان الكوردي في مختلف مجالات العمل والتوظيف ومن ناحية الخدمات والعلاج وتوزيع الثروات الوطنية على المناطق السورية.
منذ اندلاع الانتفاضة الشعبية الكوردية في ربيع 2004 التي شملت كل المنطقة الكوردية، وتم فيها الاستيلاء على كل الإدارة الحكومية فيها، أسفر النظام عن وجهه الشرس بمؤامراته التي يعترف بها الآن رجال أمنه المنشقين على أهل المنطقة بهدف تأجيج الصراع الاثني بينهم وبمواجهته بعنفٍ لا مثيل له للمتظاهرين المدنيين وباستعانته بأبناء القبائل العربية الموالية له للانتقام من الكورد ونهب ممتلكاتهم وتعذيب الناشطين من أجل الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان، بل أقدم النظام على القتل والاغتيال والتعذيب حتى الموت للعديد من المواطنين لمجرد أنهم بأنفسهم أو أن أحداً من أقربائهم قد شارك في المظاهرات.
مع الأسف فإن الحركة السياسية الكوردية لم تتمكن من أخذ زمام المبادرة وقيادة تلك المظاهرات بهدف تطويرها وتوسيع نطاقها، ووقفت المعارضة الوطنية والديموقراطية السورية موقف اللامبالاة مما جرى في المنطقة الكوردية، بل منها من اتهم الكورد في سوريا بالتخابر مع إسرائيل والعمل مع الأمريكان والصهيونية ضد الأمة العربية، ودخل في لعبة النظام دون علم أو بعلم … بل اتفق بعض المعارضين السوريين مع النظام في ضرورة تلقين الكورد درساً لن ينسوه، والعمل من أجل وضع حدٍ لقيادة إقليم جنوب كوردستان التي بحد زعم العنصريين العرب تحرّك الكورد السوريين وتحرّضهم على الانفصال…
منذ اندلاع الثورة السورية الشعبية وتحولها مع الأيام إلى ثورة مسلحة اختلط فيها أعداء النظام بمؤيديه، وتشابكت المصالح الإقليمية والدولية على صدر سوريا، بحيث لم يعد المرء يعلم لصالح من تقاتل هذه الفئة وضد من هي تلك الفئة الأخرى، وأدرك النظام أن من الضروري تسليم المنطقة الكوردية إلى حلفاء له ليتفرّغ إلى نزاعٍ دموي طويل الأمد مع أعدائه الأساسيين الذين يعملون على اسقاطه، والكورد في غالبيتهم غير مهتمون بمن يحكم سوريا إذ لا يجدون فارقاً كبيراً بين النظام والمعارضة في الموقف تجاه قضيتهم القومية، وهم ليسوا من طلاب اسقاط النظام بقدر ما هم مطالبين بإحداث تغييرات دستورية وعملية تفسح المجال للشعب السوري بالانتقال تدريجياً لنظامٍ ديموقراطي دونما حاجة لنزاعاتٍ مسلحة تدمر البلاد ولا تأتي بإصلاحاتٍ حقيقية. إلا أن النظام قد اختار حزب الاتحاد الديموقراطي كحليف له وسلّمه مفاتيح إدارة ذاتية مؤقتة للمنطقة الكوردية وقدّم له يد المساعدة لبناء قواتٍ مسبحة له مزوّدة بمختلف أنواع السلاح الخفيف والمتوسط وبآليات وتجهيزات عسكرية للاتصال والتنقل، ومنحه إمكانات مالية ضخمة للقيام بواجبه كمدافع عن دوائر الحكومة وممتلكاتها وأزلامها وثكناتها العسكرية وليكون الحزب عائقاً كبيراً في وجه انضمام الحركة الكوردية السورية إلى صفوف المعارضة السورية والتحاق شباب الكورد بالفصائل المقاتلة ضد النظام، ورأينا كيف سلط هذا الحزب إعلامه القوي على الناشطين الكورد الذين شاركوا في المؤتمرات الأولى التي عقدتها المعارضة السورية في تركيا ومصر وفي بعض الدول الأوروبية.
لم يقف النظام عند هذا الحد، بل سعى إلى بناء فصائل إسلامية معينة هدفها التخريب ضد صفوف الجبش السوري الحر واختلاق معارك جانبية بين قوى الثورة السورية والقيام بتطبيقات غريبة باسم إقامة الحدود الإسلامية لاتهام الثورة ككل بأنها مجرّد مجموعات إرهابية معادية للعالم الحر الديموقراطي ومهددة لإسرائيل وللوجود الأمريكي في المنطقة.
مع الأسف فقد انخرط حزب الاتحاد الديموقراطي، الذي هو في الحقيقة تنظيم سوري لحزب العمال الكوردستاني في هذا النزاع الجانبي بذرائع وحجج ما، وكأنه ينفّذ سياسة النظام ويدور في فلك استراتيجيته العسكرية، ولم يقم النظام في يومٍ من الأيام بقصف مقرات هذا الحزب أو مقرات خصمه اللدود (داعش) الذي ظل يتنقل بقواتٍ كبيرة في طول البلاد وعرضها، دون أن تعترضه قوات النظام. بل إن الولايات المتحدة الأمريكية التي تعتبر نفسها العدو الأكبر للإرهاب في العالم لم تحرّك ساكناً وهي تنظر إلى المجزرة الوحشية الكبرى التي ارتكبها داعش في العراق على أثر دخوله الموصل وراح ضحيتها أمام الكاميرات أكثر من 1500 جندي عراقي في ثياب مدنية وفي حالة استسلام وليس في معركة أو قتال… كانت من نتائج السياسة الخاطئة لحزب الاتحاد الديموقراطي وتصرفات أتباعه حيال المواطنين من نهبٍ وسلبٍ ومعاملةٍ جائرة حسب ما يرد إلينا من شهود عيان ومواطنين كانوا يؤيدون هذا الحزب من قبل، أن هجر مئات الألوف من الكورد مناطق سكناهم والتجأوا إلى بلاد الجوار أو إلى الدول الأوربية، مما أضعف إمكانيات الحزب في التصدي لهجمات (داعش) على المنطقة الكوردية وأساء إلى سمعته بين صفوف المعارضة السورية بشكل عام.
بسبب هذا المنحى الخاطىء والفاشل الذي سار عليه حزب الاتحاد الديموقراطي فإن سعي الكورد لبناء استراتيجية سياسية موحدة، بدعمٍ سياسي ومعنوي من قبل قيادة إقليم جنوب كوردستان، منذ سنواتٍ قلائل، قد تعثر إلى الآن، على الرغم من أن وجود استراتيجية كوردية موحدة في هذه الظروف الخطيرة في سوريا ضرورة قومية لحماية الوجود القومي لشعبنا وفي سبيل مساهمةٍ مشتركة قوية في ترتيب البيت السوري غداً، ولا يعني ذلك أننا نحمًل حزب الاتحاد الديموقراطي وحده مسؤولية هذا الفشل، وإنما نجد أن قسطاً من المسؤولية يقع على كاهل المجلس الوطني الكوردي الذي يضم عدة أحزاب كوردية ديموقراطية ومتفقة على إيجاد حلٍ عادل وديموقراطي للقضية الكوردية ضمن إطار الوحدة الوطنية السورية على شكل فيدرالية قومية لشعبنا، والعمل في صف المعارضة السورية لا بعكس اتجاهها الوطني الديموقراطي.
إن الشعب الكوردي يتسم بالاعتدال في العقيدة والمواقف السياسية، ونسبة التطرّف المذهبي أو الديني بينه ضئيلة للغاية، وله في التاريخ مثال صارخ في شخصية السلطان صلاح الدين الذي يعرفه العالم الغربي كأنموذج كوردي رائع للإنسانية والفروسية والتعامل وحفظ حقوق الأقليات، كما في التاريخ الكوردي الحديث مثال القائد الخالد مصطفى البارزاني الذي تضامنت وتضافرت وتفاعلت في ظل قيادته سائر القوميات والمذاهب والأديان والأقليات وشعرت بأنه يضمن لها جميعاً الحق في الوجود والتعبير عن الذات في عدالةٍ ومساواة، وأظهر للعالم الحر الديموقراطي كله أنه سيظل حليفاً له رغم ما لقي على أيادي بعض الدوائر الغربية من غدر به في ذروة معاركه الكبرى ضد نظام الطاغية صدام حسين في عام 1975.
إن مصالح العالم الغربي البترولية والاستراتيجية، ومنها ضرورة الحفاظ على قيم الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان في منطقة الشرق الأوسط تتطلب دعم الكورد الذين يريدون حريتهم وحرية سواهم و يعملون من أجل الأمن والاستقرار في عموم المنطقة وقد أثبتوا ذلك بجدارة في العراق، وذلك لأن المنطقة تشهد انتكاساً كبيراً بتعاظم قوى الإرهاب والتطرف التي أنشأت لها مراكز استقطاب سياسي على طرفي الحدود العراقية – السورية وهي تستولي بسرعةٍ فائقة على مناطق ذات انتاج بترولي يؤمن لها المال اللازم لتوسيع نطاق نفوذها العسكري مما سيهدد هذه المصالح وأمن واستقرار المنطقة برمتها. لذا فإن وجود استراتيجية كوردية موحدة في غرب كوردستان وقيام العالم الحر الديموقراطي بواجبه حيال هذه المنطقة الكوردية بتحقيق مطالبها المتواضعة ومد يد العون لها سيحبط جزءاً هاماً من مخططات القوى الإرهابية الساعية إلى صوملة سوريا والقضاء التام على الأقليات القومية والدينية في المنطقة وتطبيق نسخةٍ غير متفقة مع إسلام التسامح والتقارب والحياة المشتركة بحد السيف وحز الرقاب، و بخاصة بعد أن قضت على وحدة الدولة العراقية المتفسخة بحيث لا مستقبل لها سوى بالتقسيم، وهذا سيكون مصير سوريا ما لم يتحرك العالم الحر الديموقراطي بالسرعة الكافية لمساعدة حلفائه الحقيقيين في الشرق الأوسط ومنهم الكورد في غرب كوردستان بالتأكيد.