لغة الندية السياسية المفقودة
سميرة مبيض
لا يمكن أن نطلب من إنسانٍ أن ينطق بلغةٍ لا يُتقنها، ففي ذلك إجحافٌ بحقّه ، ذلك تماماً ما كان عليه حال الوسط السياسي الذكوري السوري بالتفاعل مع وجود المرأة في صفوف متقدّمة ضمنه، فهو مجتمع أتقن لغة الهيمنة والوصاية على المرأة وإنْ كانت بأساليب متعددة سواءً كانت ودية أو عدوانية، هذه اللغة التي نتجت عن مجتمعٍ أبوي بالنشأة الدينية والتركيبة السياسية والنشأة المجتمعية، فالأفراد الفاعلين في هذا الوسط هم ضحايا هذه الأطر التي صنّفت المرأة بقوالب محدّدة في ذهنيتهم، ليس من بينها قالب الندية في أيّ موقعٍ كان وبالأخصّ في فضاء الحياة العامة.
لا بدّ إذاً، ومن منطلق التعمّق في الأمراض المهيمنة على المجتمع السوري وعلاجها ضمن المسار القائم لعودته للحياة الإنسانية السليمة بعد عقود الجمود والتجهيل، لا بدّ أن نأخذ بعين الاعتبار الفترة الزمنية اللازمة لتعلُّم أبجدية الندية تجاه المرأة سواءً بالأطر السياسية أو الإدارية أو غيرها وذلك أمر ستتقنه بشكلٍ بديهي الأجيال المُستقبلية في حال نشأت بأوساطٍ طبيعية تأخذ بها المناهج التعليمية والأطر الاجتماعية والثقافية والأسرية مهمة إظهار الدور المُتكافىء لكلا الجنسين في المجتمع بالانطلاق من منظور التساوي الإنساني بينهما أولاً وفي أطر مجتمع يأخذ ضمنه كلّ إنسانٍ دوره ومكانه وفق كفاءاته وميوله وإمكاناته ثانياً.
لذلك الحين لازال وجود المرأة كندٍّّ أو شريكٍ سياسي لا ينبع عن قناعةٍ ذاتية سورية في الأوساط المعنية، والتي هي بمعظمها أوساط وتيارات فكرية ناتجة عن حقبة سياسية ماضية أو عن منطلقات مظلومية متعدّدة، بل أنّ إتاحة هذا الوجود تنجم عن محاولات استدراكٍ لمنظور حداثي لا زال يُدار بنفس العقلية السابقة ممّا يؤدّي لفشله، فما هو سائد لغاية اليوم هو فرض آلية فكر الإدارة الذكورية على النساء الفاعلات في الأطر السياسية أو المدنية ومحاولات تطويع فكرهنّ عبر الضغط المُباشر أو عبر وسائل الهيمنة المُتعدّدة بينما الانتقال يتطلّب التفاعل مع طرق الإدارة وفق منظور التكافؤ والتكامل.
ويبدو من الواجب اليوم ولمواجهة هذا الواقع إدراك كونه وضعاً غير مُعتاد لدى شريحةٍ كبيرة ممّن يعمل بالشأن السياسي السوري، وتفهم صعوبة النطق بلغة الندية الإنسانية الجديدة المطلوبة والدفع نحو تأقلم هذه الشريحة مع هذا الوضع الجديد على أبواب التغيير السوري نحو مستقبلٍ أكثر تطوّراً على كافة الصعد، وأهمها الصعيد المُجتمعي وذلك ليس من ضرورة عبور هذه الخطوة فحسب بل انطلاقاً من القناعة بما يقدّمه التكامل الفكري بين الجنسين من إيجابياتٍ على كافة الصعد، فتأهيل النساء لمواقع متقدمة في المجتمع والاعتياد على وجودهنّ في هذه المواقع ضرورة ومسار حتمي لمستقبل سوريا.
حيث تشير الباحثة الأميركية جوان ترونتو في كتاب “عالم هش” إلى امتلاك النساء لسماتٍ أخلاقية تُميّز عملهن بالسياسة ، كما تُشير إلى اعتمادهن على الروابط الإنسانية أكثر من الاعتماد على الأفراد وهي سمات تُعدّ روافع للتغيير السياسي والمجتمعي إنْ رافقها امتلاك وتأهيل النساء بالكفاءات اللازمة، وهي عوامل تحتاجها المجتمعات في المنطقة لمواجهة منظومةٍ أخلاقية مُدّمّرة أدّت إلى كثيرٍ ممّا نحن عليه اليوم.
هذه السمات الإيجابية في الإدارة ظهرت بوضوحٍ في مواجهة القيادات النسائية العالمية لجائحة كورونا والتي تفوّقت بمراحل على الإدارات الذكورية لعدة أسبابٍ أهمّها التفاعل المُبكّر مع الكارثة دون انتظار استفحالها بل تفادي استفحالها، ومنها أيضاً التفاعل الصريح والمُباشر للقيادات النسائية مع الشارع، إضافةً إلى التعامل الجدّي مع الأزمة بعيداً عن حالة الهلع التي ظهرت في حالات أخرى.
كما شكّلت الحلول الإبداعية سمةً هامةً للقيادات النسائية ومنها ظهر التوجّه للأطفال بشكلٍ مباشر لشرح الأوضاع الاستثنائية التي يعيشونها هم وعائلاتهم على سبيل المثال، كما برزت ضمن هذه الإدارة النسائية أيضاً تعدّدية المحاور من حيث التوجْه للمجال الصحي والاجتماعي والاقتصادي معاً وعدم التركيز على جهةٍ واحدة وإغفال الأخرى.
في حين أظهرت القيادات الذكورية ظواهر تنافسية وسلطوية منها ظهور حالات متكرّرة من تبادل الاتهامات وإلقاء اللوم على جهاتٍ أخرى عوضاً عن علاج الأمر بحدّ ذاته، كما ظهرت لدى القيادات الذكورية حالات متكرّرة من التسخير السياسي للكورونا للوصول لمزيدٍ من السلطوية أو التحكّم.
والأهمّ أنّ التضامن والتفاعل الإنساني كان أكثر وضوحاً في إدارة النساء، هذا التضامن الذي كان صفة إلزامية في النجاح بمواجهة هذه الأزمة.
لذلك، وبالعودة للشأن السوري وبمواجهة أزمات متراكمة تقارب مئة جائحةٍ، فإنّ وجود مكانٍ صوري للنساء، كما اعتدنا من النظم القمعية أو من معارضاتها لم يعد ناجعاً، كما أنّ نسخ أفكارهنّّ لتكرارها لغواً دون أن تكون منهج حياةٍ وعمل لن يؤدّي لأيّ نتيجةٍ، فالأولوية اليوم لضرورة تأقلم المجتمع مع هذا التطور وتعلم لغة الندية الإنسانية بين الجميع، لغة راقية ستسمو بكلّ مَنْ سيُتقنها مستقبلاً من الجنسين وستكون داعماً إضافياً لما قدّمه الشعب السوري في سبيل هذا النهوض ومن أجل تحقيق الاستقرار والسلام والمساواة بين أفراده وبين أطياف التنوّع المجتمعي السوري وعلى رأسها التنوّع الجندري، فها هي لغة معنوية جديدة نضيفها لقاموس اللغات السورية المتعدّدة لتتداخل وتتكامل مع حروفها وتصبح جزءاً من أبجديات وأدبيات المستقبل.