لماذا تعرقل واشنطن العملية العسكرية التركية في شرق الفرات ؟
بقلم علي تمي / سياسي وكاتب
واشنطن ومنذ دخولها في المسرح السوري عام 2014، دخلت في معركة شدّ الحبال و الخصوم مع موسكو وطهران من جهة، ومع أنقرة من جهة أخرى ، وبالتالي تعتبر سوريا ساحةً للمساومة والمقايضات وتصفية الحسابات، وفرض العقوبات على هذا أو ذاك, ولا تنظر إلى الأزمة الحالية ، على أنها قضية سياسية وحقوق وتغيير النظام، فهذا آخر ما تفكّر به ، و بناءً عليه من الممكن أن تدخل في أية لحظةٍ في صفقةٍ مع أنقرة تتخلّى بموجبها عن المناطق الكُردية ( الشريط الحدودي) مقابل انتزاع بعض المكاسب في أوكرانيا، وخاصةً أنّ أنقرة لم تشارك حتى اللحظة في عملية فرض العقوبات على موسكو بعد أن فتحت مضائق الدردنيل والبوسفور أمام تنقلات السفن الروسية ،كما أنها تتعامل مع الوضع في أوكرانيا بحذرٍ شديد وحساباتٍ دقيقة، دون المغامرة أو الهرولة خلف لندن وواشنطن وأجنداتهما بعيدة المدى في القوقاز وجنوب شرق آسيا.
المناورة والتلاعب مع قسد في المفاوضات
النظام السوري، منذ أن تأسّست قسد في عام 2016 تصفهم بعملاء للأمريكان، ومن جانب آخر تحاول استغلال التحشدات التركية قرب حدودها واستغلال الفرصة لسحب البساط من تحت أقدام قسد ، وبالتالي قيادة قسد تدرك جيداً مدى ألاعيب النظام وخبثه في التعامل مع الملف الكُردي في سوريا ، فالجميع يعلم أنّ مركز القرار الحقيقي لقسد ليس في سوريا ، فهم بالأساس جزء من بنية تنظيمية عابرة للحدود، منتشرة في العراق وسوريا وحتى إيران، تحت مُسمَّى حزب العمال الكُردستاني، وهي تنضبط بالسياسات التي ترسمها قيادات جبال قنديل، رغم عدم وجودها الآن فيها، وانتقالها بين الفينة والأخرى إلى السليمانية في إقليم كُردستان العراق تهرباً من الاستطلاع والمراقبة، وخاصةً بعد أن سيطرت الطائرات التركية المسيَّرة على أجواء جبال قنديل ومنعتهم من الحركة والتنقل ،وبالتالي واشنطن تعلم اليوم بأنّ من يحكم ويقرّر في شرق الفرات هذا غير مهم بالنسبة لها، الأهم من كلّ ذلك أنها صاحبة الكلمة الأخيرة ولا يستطيع عسكري واحد وضع قدمية على منطقة شرق الفرات إلا بعد إشعال الضوء الأخضر له.
ماهي مطالب واشنطن من أنقرة؟
الولايات المتحدة الأمريكية ،حربها اليوم في أوكرانيا مع روسيا الاتحادية ،هي معركة مصيرية ولا يمكن التراجع عنها قيد أنملة، و مهما كلّف الأمر، وخاصةً موسكو باتت تتحدّث اليوم عن العالم متعددة الأقطاب بعد دخول الصين على خطوط المنافسة ،وبالتالي ترى واشنطن أنّ أيّ نجاحٍ لموسكو في أوكرانيا يعني سيطرة الصين على تايوان كمرحلةٍ ثانية مع معركة شدّ الحبال فيما بينهما، الأمريكيون يقولون اليوم بأنّ بوتين تسلّق الشجرة و لا يعرف كيف ينزل، من الناحية الإستراتيجية يبدو هذا الوصف دقيقاً إلى حدٍّ ما، فموسكو وجدت الدخول إلى أوكرانيا هي حرب مصيرية وأجبرت على الغزو لأنّ كييف كانت تقرع أبواب الناتو والاتحاد الاوروبي، وبالتالي كلّ ذلك سيضع مستقبل روسيا الاتحادية على المحك
بين هذا وذاك تطالب واشنطن اليوم أنقرة بالرضوخ والانصياع لمطالبها والتي تتلخّص بما يلي:
– المشاركة في فرض الحصار على موسكو
-إغلاق مضيقي الدردنيل والبوسفور أمام البوارج الحربية الروسية
– إغلاق مجالها الجوي أمام الطائرات الحربية الروسية
– إغلاق الطريق أمام تصدير الغاز الإيراني
– الابتعاد عن روسيا ،والكفّ عن شراء الأسلحة الاستراتيجية الفتّاكة من موسكو، لأنها تعتبر ذلك تهديداً للأمن القومي لدول الناتو
بينما أنقرة بدورها تطالب واشنطن بما يلي:
– الكفّ عن دعم حزب العمال الكُردستاني تحت مسمّى قسد
– تسليم ” فتح الله كولن ” لأنقرة كونه العقل المدبر لمحاولة الانقلاب الفاشلة التي وقعت في تركيا عام 2016
– المساعدة في إنشاء المنطقة الآمنة داخل الحدود السورية بطول 900 كم وبعمق 32 كم وإعادة مليون لاجئ إلى قراهم ومدنهم
– تسليم طائرات إف35 المخصصة لتركيا التي شاركت في صنعها
– الكفّ عن دعم حزب العمال الكُردستاني في أوروبا وإغلاق كافة مقراته في عموم أوروبا وخاصةً في السويد.
الخلاصة : واشنطن استغلّت هجوم داعش على كوباني 2014 لتضع موطئ قدمٍ لها على الأرض السورية ، فنسّقت ورتّبت لفتح صفحةٍ جديدة مع منظومة قنديل بعد المشاركة في عام 1999 بالقبض على ” عبدالله اوجلان ” في كينيا ، فكان لوجودها العسكري الأثر البالغ في سياسات قادة هذا الحزب، الَّذين اعتقدوا أنهم نجحوا و لأول مرةٍ في تأسيس قاعدة محمية لهم، كنواةٍ لمشروع الأمة الديمقراطية الّذي أطلقه ” أوجلان ” من سجنه في إيمرلي (بعد مراجعات فكرية لكلّ المراحل السابقة التي غلب عليها الطابع اليساري الماركسي اللينيني)، وتحوّل هذا النجاح إلى نقمةٍ على النظام السوري الذي فقد مصادر الطاقة (النفط والغاز)، إضافةً إلى القمح وبقية المواد الغذائية والمائية، لهذا السبب من الممكن أن تقوم دمشق ببيع قسد في أية دقيقةٍ إلى أنقرة وتضعها بين فكّي الكماشة كحالةٍ انتقامية لا أكثر، بينما أنقرة تعدّ العدة وتحضّر نفسها للدخول في صفقةٍ ومقايضة سياسية جديدة مع واشنطن، وهذا هو الاحتمال الأرجح و كلّ حديثٍ خارج هذا السياق هو بعيد عن الحقيقة
بالمحصلة.
واشنطن تعلم جيداً أنّ العملية العسكرية التركية الجديدة في شرق الفرات آتية لا مفرّ منها وتنتظرها بدفع الفاتورة في أوكرانيا ، أما تواجدها العسكري سيبقى في سوريا وفي منطقة شرق الفرات امتداداً إلى الحدود لعراقية، فهي تخطّط لتقسيم المقسّم وتجزئة المجزّأ وبالتالي وجود كوادر حزب العمال الكُردستاني داخل هذه الجغرافية هو مطلب أمريكي لأنّ هؤلاء هم أدوات حادّة وفعّالة لتنفيذ هكذا مشاريع على الأرض، لهذا السبب لن تتخلّى عنهم بسهولة ، أنقرة بدورها مطّلعة تماماً على المخطط، وتحاول بشتى الوسائل تقليص جغرافية الدويلة المفترضة وإبعادها عن حدودها الجنوبية قدر الإمكان، وفي الختام لا بدّ للجميع أن يعلم، أنّ تنفيذ العملية العسكرية التركية في شرق الفرات هي مسألة وقت لا أكثر؛ لأنّ واشنطن بالتنسيق مع تل أبيب تحضّران هذه الطبخة على نارٍ هادئة، وتلزمهما نفوذ تركيا في المنطقة وإرضائها باتت مسالة وقتٍ لا أكثر , بينما النظام في دمشق أخذ حصته من الكعكة، هو بقاءه في الحكم حتى إشعار آخر, بينما طهران وموسكو متغطرستان في ملفات ومستنقعات عدة في الشرق الأوسط والقوقاز، فموقفهما ضعيف و لا يمكنهما الدخول في أية مواجهة مع الغرب .
المقالة منشورة في جريدة يكيتي العدد 299