لماذا نجحت تونس وفشل غيرها في التحول الديموقراطي؟
رضوان زيادة
شكل نجاح تجربة التحول الديموقراطي في تونس استثناء حقيقياً عن تجارب البلدان العربية الأخرى التي مرت بمرحلة ما يسمى «الثورات العربية» أو «الربيع العربي»، وبالحقيقة لا يشكل هذا النجاح تحدياً نظرياً لعلماء السياسة والشرق الأوسط فحسب، بل إن تفسيره ربما يذهب إلى أبعد من ذلك في ما يتعلق بتأكيد الفشل في تفسير نظريات التحول الديموقراطي في المنطقة العربية.
يمكن القول إن هناك ثلاث نظريات أساسية تقوم على تفسير التحول الديموقراطي في الأنظمة السياسية في العالم، لعل من أشهرها نظرية الحداثة السياسية لمارتن ليبيست والتي تقوم على مبدأ رئيسي أنه لنجاح التحول الديموقراطي في بلد ما لا بد من شروط مسبقة، أهمها وجود طبقة وسطى واسعة، متقدمة التعليم، ونمو اقتصادي يدعم هذه الطبقة ويحول تركيزها من التفكير في الحاجات الاقتصادية إلى الحقوق السياسية والاجتماعية، والنظرية الأخرى التي تقوم على أنه لنجاح تجربة الحداثة السياسية لا بد من نخب سياسية ديموقراطية والأهم من ذلك مؤسسات محلية أو إقليمية ترعى عملية التحول، وليس ضرورياً أن تكون هذه المؤسسات ناضجة أو مكتملة لكن المهم أن تكون واضحة في هدفها وهو بناء نظام ديموقراطي تعددي وربما يكون هنتنغتون أبرز من انتقد نظرية الحداثة السياسية ودافع عن المؤسساتية في بناء التحول الديموقراطي.
أما النظرية الثالثة فتقوم على دور النخب السياسية سواء في النظام أو المعارضة للوصول إلى اتفاق يطلق عليه «أفضل الحلول سوءاً»، وهو خيار المشاركة الديموقراطية وربما يكون شميتر أبرز من دافع عن هذه النظرية في عمليات التحول الديموقراطي التي أجريت في أوروبا الشرقية وأميركا اللاتينية.
في الحقيقة تبدو التجربة التونسية مغرية للباحثين في أصول ونجاح التجربة الديموقراطية بأسسها الاجتماعية والسياسية، ولذلك قرأت بشغف كتاب الدكتور عزمي بشارة عن «الثورة التونسية المجيدة: بنية ثورة وصيرورتها من خلال يومياتها»، والذي يحاول أن يقدم تأريخاً يومياً للثورة التونسية من خلال تفاعلات أحداثها السياسية ومكوناتها الاجتماعية.
يجب أن نكون واضحين من البداية وربما بدا ذلك من عنوان الكتاب ذاته، أن الكاتب منحاز كلياً لفكرة الديموقراطية، مؤمن بها كأفضل نظام سياسي من شأنه أن يحقق الازدهار والاستقرار والنمو مجتمعين، وهو بالتالي لا يشكك فيها. بالتأكيد لديه تحفظات جوهرية على المفهوم في دراسات أخرى، لكنه يحاول هنا أن يبرر نجاح التجربة التونسية من خلال جهد أبنائها.
لا يحاول بشارة أن يقدم نظرية تفسيرية لنجاح التجربة التونسية وفشل غيرها، فالكتاب كتب في العام الأول للثورة التونسية، وإنما يؤرخ لها لحظة بلحظة، ويعتقد أن لا فضل لأحد على الثورة التونسية إلا أبناؤها الذين تحلوا بـ «جاهزية نضالية عالية» لنجاح الثورة وخلق الإدراك الضروري بأن «الفعل الشعبي» قادر على تغيير النظام القائم.
يركز هنا بشارة كثيراً على دور «المعارضة» في نجاح الثورة، والمعارضة هنا بكل تأكيد ليست محصورة بمعناها التقليدي وإنما كل «من رفض الوضع القائم» وسعى الى تغييره، على رغم أنها ليست متجانسة ولا تجمعها منظومة قيم واحدة، ولذلك فإن الكثيرين من علماء السياسة يعتبرون أن التحول يتم كتعبير عن أزمة داخل النظام السياسي وليس نتيجة ضغوط المعارضة، ربما تنجح المعارضة في تصعيد هذه الأزمة أو تعميقها وإذا كانت من الذكاء كفاية ربما تنجح في استغلالها لتحويلها إلى فرصة للتحول، لكن بالمجمل، فالثورة هي انعكاس لأزمة النظام السياسي وليست نتيجة نجاح المعارضة بكل تأكيد.
الكتاب بكل تأكيد مكتوب بروح الثورة ومتشبع بها ولذلك لا يصرف وقتاً طويلاً في تحليل «النظام السلطوي» في تونس وإن كان يقدم إضاءات لامعة في تحليل شكل السلطوية التي سادت في تونس خلال حكم الرئيس السابق زين العابدين بن علي، إذ يقدم معلومات تفصيلية عن هيكلية المؤسسات السياسية والأمنية خلال فترة حكمه.
لكنه يتجنب المقارنة المنهجية مع نماذج أخرى من التسلطية العربية أو في مناطق أخرى في العالم، لأن الكتاب يمجد في شكل أو آخر «لحظة التحرر» التي خلقت لدى العرب «أول ثورة ديموقراطية شعبية»، وهو لذلك يدافع بقوة عن عروبتها ضد كل «النظريات الغربية» التي حاولت تشويه صورة الثورة وتبرير العجز العربي عن الديموقراطية أو «الاستثناء العربي»، فالثورة التونسية شكلت رداً على كل هذه النظريات.
كتب الكتاب في عز الثورة الجماهيرية العربية للبحث عن مصير ومستقبل مختلف عن الأنظمة التسلطية العربية، لكن الآن وبعد خمس سنوات ومقارنة بما يجري في اليمن وليبيا وسورية، ربما يحتاج الكتاب إلى تأمل جديد بخاصة وقد انقلب الربيع العربي إلى خريف مطبق. بعد خمس سنوات من بداية شرارة الربيع العربي فشلت معظم دول الربيع كمصر وسورية وليبيا واليمن في إنجاز عملية التحول السياسي باتجاه بناء نظام ديموقراطي وليبرالي يحقق تطلعات الشباب الذي كان في طليعة التظاهرات المليونية الحاشدة التي ملأت شوارع العواصم العربية.
لماذا فشلت دول الربيع في التحول من أنظمة عسكرية او تسلطية الى أنظمة ديموقراطية؟ لماذا فشل التحول الديموقراطي في هذه الدول على رغم نجاح عملية التحول في مناطق أخرى من العالم كدول أوروبا الشرقية في التسعينات من القرن الماضي، وأميركا اللاتينية في الثمانينات من القرن الماضي؟
ربما لا نجد إجابة كاملة في الكتاب عن استثنائية التجربة التونسية في نجاح تجربتها في التحول لكن الفصل الخامس من أمتع الفصول في سرد يوميات الثورة التونسية من سيدي بوزيد حتى تونس العاصمة، وهو يشكل عصب الكتاب في بناء نظريته وهو التركيز على دور المعارضة في نجاح التجربة الديموقراطية، وربما لن يكون هذا كافياً وحده في رأيي لتفسير التحول الديموقراطي.
كان ستيفن ليفتسكي قد ميز في كتابه الشهير «التسلطية التنافسية» بين أنواع مختلفة من الأنظمة التسلطية التي تحكم حول العالم، فهناك أنظمة تسلطية لكنها تتيح حداً أدنى من التنافسية في الانتخابات ووسائل الإعلام والتعددية الحزبية، ربما يتم تزوير نتائج الانتخابات، أو يتعرض المعارضون السياسيون لاعتقال دائم ومستمر، لكن هناك درجة من الليبرالية في التعامل مع المعارضة وفي إدارة المشهد السياسي، وهناك أنظمة تسلطية أطلق عليها لقب «مهيمنة» أي أن نتائج الانتخابات إن كانت فيها انتخابات تكون معروفة مسبقاً، ولا وجود للتعددية الحزبية أو الإعلامية فيها.
في النموذج الأول من الأنظمة التسلطية التنافسية يكون احتمال التحول باتجاه نظام ديموقراطي أعلى بكثير، في حين يكون احتمال تحول هذا النوع من الأنظمة التسلطية المهيمنة الى نظام ديموقراطي ضعيفاً للغاية، وحتى لو حدث التحول فإنه قد يقود الى نموذج من اللااستقرار في النظام السياسي او العودة باتجاه الحكم العسكري.
ربما تصح نظرية ليفتسكي هنا على الربيع العربي وبخاصة في ما يتعلق بتفسير التجربة التونسية، والأهم أن نظرية ليبيت في نمو الطبقة الوسطى ودرجة التعليم التي طبقها على كوريا الجنوبية في الثمانينات ثم على الفيليبين بعد حكم ماركوس تنطبق اليوم تماماً على تونس، فأرقام النمو متشابهة في تونس في عام 2011 وبين كوريا الجنوبية والفيليبين والتي أدت إلى اندلاع ثورة الطلبة والتي قادت إلى التحول الديموقراطي في كل من كوريا والفيليبين.
يشكل الكتاب في النهاية مادة دسمة للنقاش الغائب في المنطقة العربية حول شروط ومقومات التحول الديموقراطي وكيف أن النجاح في تونس لم يكن وليد الصدفة، وأن فهمه والبناء عليه يحتاج إلى توظيف الكثير من الموارد الفكرية والسياسية.
الحياة