ما بين ابن الباجريقي وخاني -مقارنة وتقاطع-
وليد حاج عبد القادر/دبي
كثرت التفسيرات ومعها عشرات الروايات التي تناقلت وهي ملأى ببقايا حكايا لأنساق أسطورية وأجزاء من صيغ لملاحم عديدة تداخلت وتمازجت ، وبالرغم من صيغها التي – انحدرت – بأنسنتها ، إلا أنها بقيت محافظة – ولم تزل – بالرغم من روايتها بصيغ وأشكال متعدّدة ، فيختلط فيها الخيال مع حوادث تهيم بالمتلقّي وتسير به في دوّامات تتصاعد فيها ، لا بل تتصدّرها منجزات إعجازية لا تتحقّق إلا بحكم قوى خارقة ما فوق طبيعية سواءً من قوةٍ أو وعيٍ معرفي يستقرئ المستقبل لا بل ويصنعه ، ومع متغيرات المستقبل وتنافي الحاجة أو عجز هذا الأنموذج في موائمة المتحولات ، لايلبث أن يتدرّج في الحطّ – فقدان أهميته لا بل يصبح عائقاً لنمط البيئة الإنسانية ، فتراه في أزقة المدن أو أطارف القرى وفي البراري ، ومن هذه الملاحم كنماذج متعدّدة ومتداخلة – مثلاً – يمكننا ملاحظتها بشكلٍ خاص في تنوع الأنماط التي استهدفت مم وزين أو مموزين ، وبالتالي تدرّج في النسقيات ، والتي سعت كلّ واحدة منها بدورها وعلى طريقتها في أشكال ابتكار وسائل وسبل إزاحة اللثام عن الهالة التطويبية لها ، ومن ثم إعادة إنتاج صياغةٍ قد تغوص في أو حول أنسنة مم وزين من ناحية ومجدّداً قداسة مموزين من ناحيةٍ ثانية .
وهنا ! علينا الإقرار بحجم وعدد التساؤلات التي ستواجهنا ، والتي ستطرح ذاتها بداهةً في موضوعة الإرث والتراث الكُرديين ، هذا المجال البكر معرفياً والخصب كما الغزير بمواده إلى حدّ التخمة ، ومن أهم هكذا موضوعات ، والتي تستوجب منا التركيز على عواملها ، هي العلاقة الجدلية بين القداسات والتجلّيات ، الغيبيات وما تجسّدها من قوىً خارقة والانكشافات ، ولتعدّد وتوسّع مشارب هذا المجال ، خاصةً في بيئة خصبة وثرية بمدلولاتها الشفاهية وبمصداقية معرفية تتقاص إنْ مع المروي – المنقول ، وكذلك التراتبية المعرفية للصيرورة المجتمعية وبالتقاطع – حكماً – مع المتحوّل الاقتصادي في أنماطه المختلفة ، وهنا سأحاول التركيز – قدر الإمكان – على التعليل في الجانب الظنّي كتقاطعٍ وبالاستناد كتوكيدٍ نسبي على تراكمات آفاق الوعي والعلاقة بين المخفي كأسطورة ومن ثم انكشافه بالضرورة أي انسنتها ، ومدى تداخل هكذا حالات في رقي الوعي وجدليته المعرفية وكانعكاس لذلك كانت الطقوس بكافة أشكالها وطرائق أدائها ، تتداخل فيها سبل القداسات والكرامات ورسائل ملأى بأمورٍ حدثت أو ستحدث وكلها تتغلّف بهالتها القدسية إلى لحظة التجلّي والانكشاف البشري . إنّ أنسنة المقدّس وتبسيطه هي واحدة من أشد الظواهر التي اشتغل عليها الوعي الإنساني وسعى بكلّ آفاق وعيه لاختراق المجهول وصولاً إلى ماهيته ، هذا الامر الذي عمل فيه كبار فلاسفة العصور والمشتغلين في تفسير الماهيات وتدرّج ظهورها على حقيقتها ، ولعلّ أسطورة ( مم وزين ) أو ( مموزين ) هي واحدة من اكبر التجلّيات وبالتالي حالات تطور العقل ووعيه ، وبالتالي أمام المتغيّرات التي دفعت بالنمط القديم إنْ إلى التقوقع والتحوط أو الاندماج بشكلٍ أو بآخر مع النمط السائد , وعليه ووفق قواعد التأثّر والتأثير من جهةٍ ، خاصةً في تداخل العامل الجغرافي مناطقياً ، سيما والفضاء ببنائه الفكري وتدرّجات وعيه والعامل الزمني والتحول المجتمعي والاقتصادي وكتشابكٍ وبعبارةٍ أدق تداخل كلّ التقاطعات التي تفرز عصارة نتاجها المعرفي ووعيها الراقي كنتاجٍ عملي للمنتوج الذي يطفح ويتراكم ، وهنا وفي عودةٍ عملية إلى العنوان الرئيسي، و أعني بها جدلية ترسخّت في ذهني وتراكمت حول إمكانية وجود علاقة – محتملة – بين ابن الباجريقي وملحمته وخاني وملحمة مم وزين أو – ممو زين – ؟
وهل كانت ملحمة الباجريقي وما جرى لصاحبها رغم الرمزية القاسية التي تمترس منسقها – كاتبها بها ، هذه الملحمة الغارقة كانت في رمزياتها وطلاسمها المبهمة لغير بيئتها ، نعم : سيبقى هناك السؤال الذي سيتكرّر ومساع ستُبذل للإجابة على ذات السؤال الحيوي . هل هناك ربط / أساس بين الملحمة الباجريقية برموزها التي اتُّهِم وحُكِم بسببها على صاحب الملحمة – ابن الباجريقي – بالإعدام في كلٍّ من دمشق وبغداد والقاهرة ، وبين ملحمة خاني – مموزين -؟
ولماذا أصرّّ خاني على الترميز الشديد ولكن بالبساطة والسهولة أيضاً في فكفكة رموز الملحمة وأنسنتها ؟
ولمَ إصرار المير جلادت بدرخان على اعتبار اسم الملحمة – مموزين – وليس – مم وزين – اي كلمة واحدة ؟ .
إنّ الملحمة المخفية / المختفية والمعروفة بالملحمة الباجريقية ! وما قيل عنها بأنها تعتمد على الطبيعة ورموزها في معتقداتها ، وظروف بيئاتها وبطقوسها المناخية ! فهي مرتبطة إذن بالفصول ، وما اجتزّه غالبية مَن عاصروا ابن الباجريقي واستمعوا له أو قرأووا ملحمته ، استدلّوا منها نزوعه صوب التعارض مع الديانات التوحيدية ، مما يخلق الظنون بأن تكون تلك الملحمة هي الجذر – الأساس الذي اعتمد عليه خاني ولكنه أفرط في أنسنتها ، ومما يزيد في دوافع التأكيد على ذلك ، خلو سلسلة قوائم الأمراء في بوطان من أسماء خاني ، وأيضاً مم بشخصه وزين منذ زمنٍ طويل في أطر عائلات أمراء بوطان من جهة ، وكذلك القبر بحد ذاته الذي يقع في مربع يعد ساحةٍ لمرقد مير آڤدلي – والذي لايمكن أيضاً تتبّع سلسلة حياة بشرية سلالية له في بوطان ، ومسجده أيضاً يشي بأنه ضمن المحيط الذي فيه مرقد – معبد مموزين علماً بأنّ الموقع كلّه يُعرف في الذاكرة الشعبية ب – مير آڤدلي – وعليه لايمكن مطلقاً تجاهل ظاهرة أن تكون ملحمة ابن الباجريقي واحدة من تلك الأنساق ، وقد تعرّض ابن خلدون في مقدمته إلى ابن الباجريقي وملحمته في عدة مقاطع أهمها ( .. سألت أكمل الدين ابن شيخ الحنفية من العجم بالديار المصرية عن هذه الملحمة وعن هذا الرجل الذي تُنسب إليه من الصوفية وهو الباجريقي وكان عارفاً بطرائقهم فقال: كان من القلندرية المبتدعة في حلق اللحية وكان يتحدّث عما يكون بطريق الكشف ويومي إلى رجالٍ معينين عنده ويلغز عليهم بحروف يعينها في ضمنها لمن يراه منهم. وربما يظهر نظم ذلك في أبيات قليلة كان يتعاهدها فتنوقلت عنه وولع الناس بها وجعلوها ملحمة مرموزة وزاد فيها الخراصون من ذلك الجنس في كلّ عصرٍ وشغل العامة بفك رموزها وهو أمر ممتنع إذ الرمز إنما يهدي إلى كشفه قانون يُعرف قبله ويوضع له وأما مثل هذه الحروف فدلالتها على المراد منها مخصوصة بهذا النظم لا يتجاوزه .. )
الفصل الثالث والخمسون في حدثان الدول والأمم .
وقال قبل ذلك : ووقفت بالمشرق أيضاً على ملحمة من حدثان دولة الترك منسوبة إلى رجلٍ من الصوفية يسمّى الباجريقي ، وكلّها ألغاز بالحروف ، وذكر منها أبيات منها بعد ذكر رجل يسمّى الأعرج الكلبي يأتي من المشرق :
إذا أتى زلزلت يا ويح مصر من الـ … ـزلزال ما زال حاء غير مقتطن
طاء وظاء وعين كلهم حبسوا هلكًا وينفق أموالاً بلا ثمن
ثم ساق حكاية الدانيالي وقال :
والظاهر أنّ هذه الملحمة التي ينسبونها إلى الباجريقي من هذا النوع .. ) ٥١ / ٤
إنّ ما اجتُزيء من الملحمة من قبل فقهاء المذهب المالكي في دمشق والفاطمية العلوية في القاهرة وبعدها بغداد والحكم بقتل ابن الباجريقي للردّة واختفاء او إخفاء ملحمته والتي لربما بقيت متداولة ولكن بسرية ، والتي لا تخلو سيرة / ملحمة خاني من خفايا رئيسة بنيت عليها ما أسميه بالجذر الأساس للوعي الميثولوجي الكُردي .
…..
هوامش
* باجريق : تقع شمال شرق ديريك في كُردستان سوريا بينها وبين بوطان حوالي ٤ الى ٦ كم وهوموقع أثري مغفل كان حتى سيطرة اتحاد ديمقراطي واستبيحت كلّ المواقع لنهبٍ منظم
** ابن الباجريقي اشتهر بملحمته المشهورة والتي اعتبرت رموزاً و أعداداً مستعصية على الفهم ، سكن دمشق فترةً من الزمن وظهر له أتباع هناك .. حُكِم عليه بالموت من قبل المذهب المالكي المسيطر آنذاك .. فرّ إلى القاهرة والتجأ إلى الأزهر حيث علّم فيها فترةً مالبث أن حُكِم عليه ثانيةً بالموت بسبب آرائه ، وفرّ إلى بغداد حيث عاش فترةً من الزمن ، مالبث أن عاد إلى دمشق متخفّياً بين أتباعه في – قابون – قرب دمشق وقد أضيعت – وربما أُتلِفت ملحمته – ولم يتبقَّ منها سوى ١٢ بيتاً ذكره ابن خلدون في مقدمته المشهورة
* لمزيد من المعلومات يمكن مراجعة د . سهيل ابراهيم – التاريخ العربي والمؤرّخون – الجزء الرابع
** الشيخ جمال الدين أبو محمد عبد الرحيم بن عمر بن عثمان الباجريقي (4) الشافعي، أقام مدة بالموصل يشتغل ويفتي،
*** كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمّى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر » …
(1) في شذرات الذهب 5 / 445: في الخامس والعشرين من أحد الجمادين.
(2) كذا بالأصل، والسلوك 1 / 906 وفي تاريخ الإسلام للذهبي (سلمان).
(3) المدرسة العصرونية بدمشق أنشأها فقيه الشام شرف الدين أبو سعيد عبد الله بن محمد بن أبي عصرون (الدارس 1 / 391).
(4) الباجريقي نسبةً إلى بلدة باجريق قرية شمال العراق بين البقعاء ونصيبين (معجم البلدان).
المقال منشور في جريدة يكيتي العدد “279”