محدّدات السياسة الأمريكية الجديدة في الشرق الأوسط. . ……
هيئة التحرير/ جريدة يكيتي
بقلم : فؤاد عليكو
مما لا شكَّ فيه، بأنّ سياسات الدول الاستراتيجية تتغيّر بتغيّر الظروف والمعطيات التي تنتج عن سياساتها السابقة، ومدى نجاعها أو فشلها في تلك البقعة الجغرافية،فما بالك بدولةٍ مثل أمريكا التي تُعتبَر وحتى اليوم اللاعب الأول والأساسي في السياسة الدولية بشكلٍ عامٍ والشرق الأوسط بشكلٍ خاص، حيث سيطرت على القرار الدولي بشكلٍ أحادي منذ انهيار الاتحاد السوفيتي وحلف وارسو في تسعينات القرن المنصرم دون منازع، وتدخّلت عسكرياً في عدة دولٍ لردع أيّ نظامٍ لا يتّفق وسياستها العامة، وهكذا أسقطت أنظمةً عدة، منها أفغانستان والعراق وليبيا، لكنّ تجاربها في إدارة هذه الدول بعد سقوط أنظمتها فشلت فشلاً ذريعاً، حيث لم تتمكّن من توفير الأمن والاستقرار في هذه الدول، رغم زجّ عشرات الألوف من قواتها في تحقيق ذلك، ففي العراق وحدها زجّت 147 ألف جندي، مما اضطرّها إلى الاستعانة بالمليشيات المحلية (صحوات ) ،حتى تساعدها في حفظ الأمن بدرجةٍ معينةٍ، وحصل الأمر نفسه في أفغانستان . وبانتهاء عهد بوش الابن ومجيء الديمقراطيين بقيادة اوباما، تمّت مراجعة هذه السياسة برمّتها ، فقرّرت الانسحاب عسكرياً من العراق وأفغانستان ،وتمّ انتهاج سياسةٍ جديدة ؛ تعتمد في جوهرها على القوى المحلية في تلك الدول، بالترافق مع توفير المناخ الديمقراطي وإفساح المجال للتيارات الإسلامية المعتدلة المشاركة في الحكم وحتّى استلامه والتعامل معها إيجابياً، يقيناً منه – أوباما – ومن طاقمه في الحكم بأنّ السبب الرئسي وراء صعود التطرّف في العالم الإسلامي هو غياب الديمقراطية والتضييق على القوى الإسلامية المعتدلة، ووجدت أمريكا في تجربة حزب العدالة والتنمية الناجحة في تركيا نموذجاً ، من الممكن الاستفادة منه في دول أخرى .
وشاءت الأقدار والصدف في إضرام بو عزيزي النار في نفسه، وانتشار هذه النار على امتداد تونس، حيث تحوّلت إلى ثورةٍ شعبية عارمة، أسقطت نظام الدكتاتور زين العابدين، واستلمت قوى المعارضة التونسية السلطة، وكان نصيب التيار الإسلامي التونسي هو الأكثر في قيادة الجمهورية الجديدة ديمقراطياً، ولم تتوقّف الثورة عند تونس؛ بل امتدّت إلى ليبيا ومصر وسوريا واليمن، وفي كلّ دولةٍ يصعد التيار الإسلامي إلى السلطة سواءً من خلال الانتخابات أو عسكرياً حتى في العراق، ورغم وجود هذه القوة العسكرية الأمريكية الكبيرة فقد سيطر التيار الإسلامي الشيعي على السلطة، وتمّ غضّ النظر عن التغلغل الإيراني في العراق ،لدرجةٍ سيطرت على القرار السياسي العراقي.
لكن هذه الاستراتيجية اصطدمت بواقعٍ جديد لم يُحسب له حساب، وهو أنّ التيارات الإسلامية المتطرّفة انتعشت أكثر في ظلّ الإسلام المعتدل، بدلاً من تقليص دوره ، وهكذا ظهرت النصرة بقوةٍ ،وفيما بعد داعش، كما أنّ بعض التيارات الإسلامية المعتدلة ،خاصةً الإخوان المسلمين في مصر، أعلنوا عن نيّتهم جهاراً (بأنّ علينا ممارسة سياسة التمكين حتى ٥٠٠ عام….خطاب نائب المرشد العام خيرت الشاطر في الملعب ٢٠١٢).
كل ذلك دفع الأمريكيين الى تغيير استراتيجيتهم في التعامل الإيجابي مع التيار الإسلامي، وهكذا تمّ إسقاط النظام في مصر، وأوقِف الدعم عن التيار الإسلامي في سوريا، لا بل ومنعه من إسقاط النظام ، وتحوّلت المطالبة من أنّ ( أيام النظام باتت معدودة …هيلاري كلينتون ٢٠١٢) إلى تغييرٍ في سلوك النظام، أي إجراء إصلاحات دستورية ومشاركة المعارضة في الحكم.
من خلال هذا السرد للسياسة الأمريكية في العقدين الأخيرين نستنتج بأنّ محدّدات السياسة الأمريكية المقبلة تكمن في عدة عناصر أساسية منها:
– عدم اللجوء إلى القوة العسكرية المباشرة في إسقاط الأنظمة ،وحلّ الجيوش والتعويض عنها باستخدام القوة الناعمة (العقوبات الاقتصادية).
– الاعتماد على القوى العسكرية والشعبية المحلية في الضغط على الأنظمة لتغيير سياساتها.
– تجنّب الاعتماد على الإسلاميين في عملية التغيير، إن لم يكن إبعادهم كلياً.
– اعتماد التجربة السودانية والجزائرية نماذج في عملية التغيير، أي عملية تلاقح ومشاركة بين قسمٍ من النظام والمعارضة، والعمل على عملية التغيير الهادئة دون حدوث ردّات فعلٍ سلبية تؤدّي إلى انهيار النظام.
المادة منشورة في جريدة يكيتي العدد 285