مذكّرات جندي مجهول (1)
محمد رمضان
ذات يوم من ليالي الشتاء في بلدة ” رنكوس ” بريف دمشق ، تسلّم جنديٌ مجهول مهام عريف الحرس في الكتيبة 1016من مرتبات المدفعية المحمولة 130مم في قوات الجيش السوري ، وقام عريف الحرس بدوريّة على نقاط الحراسة حول الكتيبة المذكورة وكلمة السر كانت في ذلك الليلة ‘ تحسين ‘
نظرات عريف الحرس تجول في الأفق ، بينما يردد الحرّاس ” قف من أنت ” !؟ فيجيب ” العريف الحرس ! ” ، فما كلمة السرّ إذاً ، يردّ ” تحسين ” ، يُكرّر الحرّاس السؤال ذاته ويكرر العريف الإجابة ذاتها .
وتابع عريف الحرس جولته ضمن حرم الكتيبة واسم تحسين يدور في مخيلته بعدما أسند ظهره على سارية العلم ونظر إلى اضواء بلدة صيدنايا المجاورة لـ ” رنكوّس ” حيث شعاع سجنها ومقصف ” جار القمر ” على تل كنيسة ” شوروبين ” المطلّ على بلدة صيدنايا ورنكوس بسلاسل جبال القلمون ، حيث الشهب النارية قبل أن يلتفت إلى خلفه ليرى صور حافظ الأسد وأولاده باسل وبشار معلقة على حائط مكتب قائد الكتيبة وهو العقيد الركن ” أحمد محمود غانم ” يفوح منه رائحة المعسل والمشروبات الروحية وصوت أم كلثوم بأغنية ‘أطلال‘ ، بينما خطوات الحرس المتمسك بالبندقية وكأنه يحرس قصر ” إلليزية ” فتبدو موزونة ، كان اسم الحرس ‘نضال عيد ‘ من بلدة ‘أنخل‘ بريف درعا التي تقمع فيها الثورة السورية بوحشية في انطلاقتها .
فهل ترى يفكر نضال ماذا يجري في أنخل ، عشرات القتلى والجرحى حسب راديو ” بي بي سي “على الهاتف الجوال الذي يستمع إليه ” عريف الحرس ” بينما ضحكات العقيد والرائد ” نظام بركات ” تكسر الهدوء في الكتيبة ، في حين يتمسّك نضال ببندقيته وهو يحمي مكتب العقيد على مدار الساعة مثل نشرة الأخبار على موجة الـ ” بي بي سي ” التي تبقى لها فقط ربع ساعة بالتزامن مع تبديل الحرس نوبته الثانية .
ويتابع عريف الحرس جولته ، وهو يفكر بتحسين ، يدخل إلى غرفة الحراس ، مناوبته الثانية بصوتٍ عال ، بينما يشاهد ضوء هاتفٍ جوال من الغرفة ظنّاً منه إن أحد الجنود يستمع إلى نشرة أخبارٍ حول الثورة السوريّة ، فيغض النظر عن ذلك بما أن نشرة الأخبار تكون على رأس كلّ ساعة بينما لم يتمكن الجندي من إغلاق سماعة هاتفه ، إذ يتفاجئ العريف الحرس بأن ذلك الجندي يشاهد الأفلام الجنسية عبر موبايله ، فغض النظر عن ذلك مرة أخرى .
ونادى بصوتٍ عال النوبة الثانيّة ، نعم .. حضرة الرقيب ، أنا جاهز ، ظناً منه بأن عريف الحرس لم ينتبه إلى ذلك ، فردّ عليه ” خبّي موبايلك ! ” ، وأعازَّ بأسماء النوبة وهم : ” بشار ..محمود…خبات….آزاد.. “.
بشار ـ حاضر حضرة الرقيب ، وغصَّ قلب عريف الحرس من اسم ذلك الجندي ومرة أخرى قال له خبي جوال أين محرسك ؟ ، رد بشار مستودع الذخيرة رقم 1 ، اذهب إذاً .
محمود أين محرسك ؟ الساتر الغربي ، اذهب اذاً .
خبات أين محرسك ؟ الساتر الجنوبي ، اذهب يا خبات وخبات بالكردية تعني نضال .
آزاد أين محرسك؟ الباب الرئيسي ، أذهب فأنت صمام الأمان للكتيبة يا آزاذ ، وآزاد يعني الحرّ بالكردية .
ورد آزاد كلمة السر ، يا حضرة الرقيب كلمة السر ‘تحسين‘ وهو ينظر من حوله ويقول عريف الحرس ! ماذا تريد يا آزاد ، ورد آزاد .. هل تعرف من هو تحسين يا صديقي !؟
حدّق العريف الحرس إلى آزاد ، وأنت تفكر من هو تحسين !؟ قال ، نعم يا صديقي وقال العريف الحرس : أنظر إلى خلفك ستعرف من هو ‘تحسين‘ . نعم يا صديقي : أرى الإنارة ونحن نحرسهم يا صديقي وهم من قتلوا تحسين . نعم يا ” آزاد ” لا يموت الحق مادام وراءه مطالب …فرياح التغير قادمة ، لا بد من الاستبداد أن يزول ،والربيع العربي بدأ من تونس وسقوط المستبد زين العابدين بن علي خلال 18يوماً وفي ليبيا لايزال الثوار يحاصرون باب العزيزية وهو على وشك السقوط أما في سوريا الوضع فيختلف الوضع تماماً عن تونس وليبيا واليمن ورد ‘آزاد‘ لماذا الوضع في سوريا مختلف يا صديقي؟
رد عريف الحرس ، سوريا دولة بوليسية لذلك لديها جذور في الإرهاب ، وستعمل كل ما في وسعها تحويل الثورة السورية إلى فتنه طائفية .
هل تتذكر الانتفاضة الكردية في عام ؟ 2004ماذا فعل النظام السوري في وقتها ـ نعم أتذكر …فاذهب إلى محرسك تأخرت يا آزاد ، وضحك آزاد وقال يا صديقي نحن نحمي الاستبداد . لا يا صديقي نحن نحمي سوريا . تذكر ‘تحسين‘ تعرف كل شيء ، فاذهب إلى محرسك ، نلتقي غداً ” .
وتابع عريف الحرس جولته ضمن الكتيبة ومر بجانب مكتب الملازم أول ” حسن صالح ” فإذ به يتفرج على قناة الغنوة الفضائية بأغنية جيناكم خطابة .
تابع عريف الحرس طريقه نحو الساتر الغربي للكتيبة وفي أذنه سماعة الموبايل مع راديو ” بي بي سي ” من لندن وجولة أخبار حول العالم ” حملة اعتقالات في درعا المحطة وعشرات القتلى في أنخل وقصف المدفعي على بصرى الحرير ومظاهرات في عامودا وكوباني ‘عين العرب ‘في شمال سوريا تنديداً بممارسات النظام السوري وبانكي مون قلق عن حيال الوضع في سوريا وحرائق في أستراليا “وصوت رشقات الرصاص من رنكوس . تفقد عريف الحرس نقطة الحراسة على الساتر الغربي ، فصاح الحرس قف من أنت؟ عريف الحرس تقدم كلمة ‘تحسين كرر ‘تحسين ‘كرر ‘تحسين‘ تابع …وتابع عريف الحرس جولته على نقاط الحراسة نحو مستودع الذخيرة رقم 1 ، أقترب من المحرس دون أن ينتبه أحد من قدومه ، فوقف أمام بشار وهو يتفرج على الأفلام الجنسية عبر الموبايل وقال له ” هات الموبايل يا بشار ” فيرد : عفواً يا حضرة الرقيب ، آخر مرة . مو مشكلة بكرا تأخذه ، وتابع عريف الحرس جولته نحو المحرس الجنوبي ، كلما اقترب من الساتر خطف أنظاره نحو سجن صيدنايا فهو يفكر ‘بتحسين‘ ولم ينتبه على صوت الحرس قف قف من أنت ولم ينتبه بعدما ما نادى الحرس عريف الحرس للتعارف ، عريف الحرس للتعارف .
وقعت أذانيه على سماع صوت تقليم البندقية ، فصاح العريف الحرس أنا أنا عريف الحرس يا خبات ما بك يا حضرة الرقيب؟ ماذا جرى لك ؟ لاشي يا خبات تعبان شوي وأستوقفته الكلمات وهو ينظر إلى أضواء سجن ” صيدنايا ” عفواً حضرة الرقيب هل يوجد شيء ، لا أبد اتأمل أضواء صيدنايا ورد خبات هل أحد من أقاربك يسكن في صيدنايا ، لا أذاً لماذا أنت متوتر ، لاشي ” فيني أساعدك بشي يا حضرة الرقيب ” شكراً ياخباب .
وتابع جولته نحو الغرفة التي يسكنها مع ثلاثة من صف ضباط واحد منهم على خلاف معه وهو من مدينة حلب ومن حي ” بعيدين ” وينتمي إلى شبيحة الأسد الذين يفتخرون بقمع المظاهرات هناك خلال إجازته في حلب وهو يلف يده بربطة بعد إصابته في إحدى التظاهرات المناهضة للأسد ، وصف الضابط الثاني هو محمد درويش من مدينة حماة يسكن في حلب ‘حي حلب الجديدة ‘يمدح انتصارات آل الأسد ولا يعلم شيئاً عن مجزرة حماة التي قضى فيها أقرب الناس له ويذكر بأنه والده ضمن قائمة ضباط المدينة الذين تم طردهم من العمل العسكري فقط لأنه من حماة ويسخر من المظاهرات التي تخرج يوم الجمعة ويصف المتظاهرين بالـ ” زعران ” يتصورون في لحظة واحدة ثم يرسلون الفيديوهات إلى الجزيرة والعربية .
ومع بزوغ الفجر سحب عريف الحرس دفتره من معطفه وجلس على سرير حديدي .ونظر على شريكه قي الغرفة التي تشبه الوكر.
ودوّن العريف الحرس مذاكراته على دفتر عليه صورة بشار الأسد بكتابة رموز خاصة به كي يخشى وقوعه بيد أحدهم دون أن يستوعب ذلك .
بدأ بكلمة ” عفواً يا صديقي ورفيق دربي ” تحسين” أنت قدوتنا وأنا على العهد ، لم أخون أمانتك ، فالليلة الماضية كانت بنسبة لي أصعب ليلة من كلمة السر إلى مخلفات عساكر اللامبالاة من الضباط وما يجري من أحداث في درعا .
كل هذه الهواجس تقود سوريا إلى الزوال والحروب الطائفية قادمة لا محال ، عفواً رفيق دربي كيف أبرر بأني على العهد والمبادئ التي عشنا من أجلها منذ لحظة اعتقالك في حي الشيخ المقصود الغربي على يد قوات الأمن وأنا أرقب كل شيء ، أعذرني أني لم أحضر جلسات المحكمة فأنت تحدثت بلا خوفٍ مع القاضي ولم ترضه للتعذيب وتكلمت بلغتك الأم وأزعجتهم بأفكارك ولم ترضخ للفكر السلفي وقارعتهم ببسالة وصرت شهيداً يا ” تحسين ” في سجن صيدنايا وسجلت لحزب يكيتي الكردي في سوريا سجلاً في المقاومة وقارعت نظام البعث وصادقتك شهداء يكيتي من فرهاد صبري وعبدي نعسان وآراس بنكو ، عفواً صديقي تحسين ورفيق دربي لم أخون العهد سنحمل اسمك حتى يتحقق النصر لشعبنا و لقضيتنا العادلة ، المجد والخلود لشهداء الثورة السورية ” .
رنكّوس ـ آذار / مارس 2011 (من مذكّرات جندّي مجهول)