ملامح ميثولوجية وجهة نظر في الذهنية التراثية الأسطورية الكوردية “القسم الثاني”
وليد حاج عبد القادر
و قبل الخوض في تفاصيل المثل واحداث قصتها لابد لنا وكما أسلفنا في القسم الأول فقد تبين مدى الإجحاف بحق ثقافة الشعب الكوردي عامة و في جانبه الميثولوجي خاصة ، بالرغــم من عمق هذه الثقافة والموسومة حتى أيامنا هذه من ثقافات الشعوب الشفاهية ، و التي لم تدون أو تؤرشف علميا لهكذا أنماط .
إلا أن المتتبع لها سيلحظ مدى تجذر هذه الثقافة عمقيقا في انتمائها وسياقات بداية الوعي الإنساني في ميزوبوتاميا / بلاد مابين النهرين / لابل أن كثيرا من الأغاني والرقصات ومعها الأمثلة والحكايا الشعبية على الرغم من تعاقب الأديان وكذلك الآلهة الطقسية / الجنسية بطابعيها الذكوري / الأنثوي ، أضف إليها انعكاس النمطية الإقتصادية / الإجتماعية لبيئة زراعية او رعوية وما تلاها او رافقها من ظهور لمهن عديدة كحرف أفرزت الهتها وحرفييها مثل / زمبيل فروش ، هسنكر وجوتيار ، شفان _ كافان / وكان من الطبيعي وهذا السياق أن يلغي القادم الأقدم في عملية صراع معقدة طالت لربما ولكنها أبقت على كثير من مؤثراتها وصفاتها ولكن منسوبة للمستجد ، وبعبارة أدق : تهمشه وإن لم تنهه على الإطلاق ، وفي تتبع سريع للظاهرة الميثولوجية في الثقافة الكوردية نتلمس ذلك الصراع الأزلي بين النقيضين كما أسلفنا وهذين النقيضين يرفد واحدهما والأصح أن كلاهما يحمل جينة استيلاد الآخر مثل الحياة / الموت ومن ثم الموت / الحياة وهكذا دواليك كإنعكاس طبيعي لنمط الحياة المعيشية في مجتمع رعوي / زراعي و في تماس مباشر لابل ومتداخل بوضوح في المركز من أسطورة إينانا ودوموزي ومن ثم الظاهرة الطقسية ودورانها بالتعاقب من خريف فشتاء الى ربيع فصيف فيبدو الرمز الطقسي وبتفسيراتها متلازمة لهذه الظاهرة وملتحمة بمجرياتها ولتترسخ بعمق في الوعي الميثولوجي الكوردي وليتمأسس عليها ظاهرة النقيضين او المتقابلين منكشفة في الفولكور ومتجلية في الغناء ايضا بمتوالية / بي زوك ، الخريف / و / بوهاريان ، الربيع / وكتجسيد من جديد لظاهرة الموت ، الخريف وبالتالي اللوعة والحسرة والحنين ، و نقيضها بوهاريان بطقاطيق الفرح والبهجة والسرور وانعكست مترسخة في مراسيم احتفالات الزواج الكوردية كتجسيد ايمائي وصدى حركي لمجمل التراكمات الميثولوجية الرافدية المجسدة لظاهرة الخلق منذ التكوين الأول زمن العتمة الكبرى الى الهيولى وتشكل الحياة أو انطلاقتها وانفصال السماء عن الأرض وتلازمهما الأزلي كحتمية لإستمرارية وتدفق الحياة من خلال / وثانية / ظاهرة الطقس الجنسي وقداسته أو ما عرف بظاهرة التلاقح بين أبسو اله السماء / الأب / وتامات / تعامات / الإلهة الأم او الأرض والذي يسيل أبسو ماءه اليها فيلقحها ومن باطنها يتدفق الحياة من جديد ، وهنا ندخل اشتقاقات عهد سومر وبدايات الوعي البشري والتدوين فنلمح آفدار / آبدلي _ آبدار / و / ممو / كإله مربوط بالسلاسل فوق الينابيع والمياه العذبة ولن يفوتنا هنا بالمطلق ذلك الإكتشاف المذهل وأعني بها تلك القراءة الجديدة لكلمة / ننتي / السومرية والتي ترجمها علماء اللغة السومرية الكلاسيكيين على أنها تعني سيد العضو !! ليتبين مؤخرا بأن معناها الأكيد هو حواء بالعبرية أوحياة بالعربية وأنا أضيف / jîn / چين بالكوردية وطبعا وسط ذهول علماء السومريات واستغرابهم الشديد.
وباختصار : من منا لا يتذكر / بوك باران / أو / دم و دم كيسكي قدم / كما وحفلات أفراح الأعراس الكلاسيكية والأهم هو سلسلة القصص والملاحم والحكايا الشعبية .. سيامند وخجي . هيشمراري . مم وزين ، سينم ، زمبيل فروش ، لاوك و كه جك إضافة الى العشرات من قصص لاوك و گوري أو كجل وهنا وكما اسلفنا في القسم الأول وموضوعة المثل الكوردي بقصته المشهورة التي تلخص كل تلك الظواهر مضافا لها تطور الوعي البشري وبالترافق او كإنعكاس لتغير نمط حياته ومدى إرتباطه مع البيئة خاصة لطقس موائم لمجتمع رعوي / زراعي ، فيتمظهر فيها / كجل ، كوري / بحكمته ومتلازمة حلمه وكذا الشمس والقمر وتلك العلاقة الجدلية بين اكتشاف المعدن وترويض الحصان وبالتالي ظاهرة الخصوبة والمرتبطة عضويا ومن جديد بشكلها الإيحائي وعلاقة أبسو وتعامات ومن ثم كيف ينعكس غياب التلاقح / كمثال / فيؤدي ليس فقط الى إخلال التوازن العضوي فقط بقدر ما تنعكس على التوازن الفكري وبالتالي الوعي العقلي الذي تجلى في مرض والدة الملك التي انهارت بعيد موت زوجها وعجز جميع الحكماء عن معالجتها سوى كجل الذي شخص الحالة واوجد العلاج ايضا بتلاقح طقسي / جنسي مقدس وكان لمعاشرته لها معاشرة الأزواج مقدمة لتعود الى حالتها الطبيعية المرحة والمنشرحة وقد سبق هذه الحالة توصيف كجل لظاهرتين انعكستا جوهريا في آفاق التطور المجتمعي عاكسة وعيها ايضا وهذه الحكاية / القصة ككل ووفق تقاطعات سردها المتعددة وفي التعليل الأولي والبسيط والتقصي العلمي التخصصي والممنهج في مظاهر وانعكاسات البيئة والنمط المعيشي كتفسير لحالتها من جديد والتي فرضت وأفرزت / حينذاك / نمطا اقتصاديا _ اجتماعيا لتلك المجموعات بعدما تجاوز الإنسان البدئي مرحلة المشاع وأخذ بالتدرج يميز ذاته ويفصلها عن المحيط ، ولتتركبه مزيج من الأسئلة كما المواقف والأمور الغامضة التي دفعته الى ايجاد نوع من الطقسية العبادية لكل شيء وقف أمامها عاجزا عن التفسير والتعليل ، وهنا و بعيدا عن التنظير وفي تجاوز وإن كان غير متكامل في البعد ومن ثم الإبتعاد عن الطوطمية كظاهرة خارقة ومعجزة .. وباختصار شديد وكأنموذج بحثي وأيضا مختصر في تعميمية شبه متكاملة وكما أسلفت في القسم الأول فأن دراسة المثل الكوردي التالي وسرديات قصتها توحي بلا شك بأنها بقايا شفاهية لأسطورة وربما لأساطير عديدة تراكمت واختزلت العمق المفاهيمي للجذر الميثولوجي الرافدي ومن خلالها يمكننا التركيز لابل واعتبار هكذا انماط من السرديات كملامح تشي بذاتها كنوع من بقايا الذهنية التراثية أو ما يمكن كإصطلاح تعريفه بميثولوجيا بلاد الرافدين وتحديدا الكوردي منه كونه / هذا السرد وإن وجدت تقاطعات له مع ثقافات شعوب أخرى / إلا أن الجانب الكوردي منه / بقي طاغيا ، لا بل فقد أسبغه بخصوصيته المجتمعية الواضحة ، و في العودة الى المثل الكوردي حيث تقول القصة في تفاصيلها :
في زمن سحيق جدا كان يعيش في إحدى الممالك ، راع / كه جل _ گوري / وفي ليلة من الليالي حلم حلما وعند خروجه صباحا للعمل ، وكلما واجه أحدهم وبعد السلام يقول له : لقد رأيت حلما ليلة الأمس في منامي ؟! فيسأله ذاك قائلا : بماذا حلمت ؟! إلا أن / كه جل / كان يدير له ظهره ويسير ، وشاع الخبر في المملكة بأن / كه جل / قد رأى حلما ولكنه يرفض البوح به ووصل الأمر الى مسامع الملك الذي استدعاه وطلب منه أن يروي له حلمه ، ولكنه أبى ، وهدده بالحبس وأمام عناد الراعي نادى الملك على حراسه وأخذوه ورموه في قعر الزنزانة .. مضت الأيام والسنون بالراعي وقد نسيه الجميع سوى إطلالة الأميرة ابنة الملك الوحيدة والتي كان جناحها يطل على المعتقل مباشرة … وبالعودة الى الملك والمملكة هذه فقد كانت تربطه معاهدة مع ملك مملكة مجاورة وذي سطو وقوة اكثر منه ، وكان لذلك الملك مطامح واضحة في ضم هذه المملكة اليه ، ولكنه كان يقف حائرا امام عهده مع الملك ومملكته ، أفشى الملك برغبته لوزراءه فأشار عليه أحدهم على امر : أن يبعث الى الملك بوفد ومعهم لغز ما فإن حلها الملك كان بها وإلا فأنه سيعزل وتصبح مملكته جزءا من المملكة . أعجبت الفكرة الملك وأوعز لمستشاريه بالتنفيذ .. فأرسل وفدا الى المملكة واستقبلهم الملك بحفاوة بالغة ، بعد ثلاثة أيام على الضيافة ، طلب رئيس الوفد مقابلة الملك و.. أبلغه تحيات ملكه وكذلك اللغز مع الشرط الذي برفقته : إن تمكنوا من حلها صانوا مملكتهم وادوات اللغز تصبح هدية لهم من مليكهم .. وخلاف ذلك فهو معزول والمملكة تضم الى مملكتهم .. قال الملك : وماهو اللغز ؟! .. قال رئيس الوفد : مولاي معنا فرسان من نفس اللون والحجم والعمر وكأنهما توأمان واحد رهوان والآخر بركيل ونريدكم أن تحددوا لنا أيهما الرهوان خلال ثلاثة أيام … اجتمع الملك مع وجهاء وحكماء مملكته يبحثون عن فكاك لهذا اللغز الحير !! ولكنهم جميعا عجزوا عن الجواب .. عاد الملك الى جناحه العائلي مهموما ومنهكا واستقبلته ابنته الوحيدة العزيزة جدا على قلبه ولكنه لم يعرها اهتماما .. دخل غرفته ، ولكنها أصرت ان تتبعه و تدخل الى غرفته ، ولم تدعه إلا وقد أخبرها عن اللغز وشرط الملك الجازم كنية خافية كان يعلم هو بها ويخشاها دائما .. و انتقل الغم الى الأميرة وأطار النوم من عيونها ومع تباشير الفجر كان الضجر والقهر قد نال منها كثيرا ففتحت الشباك المطل على زنزانة / كه جل / فإذا به يتمشى ، وما أن لمحها حتى بادرها بالسؤال مستفسرا عن ضجرها فقالت : لم يبقى لي سواك و انت والسؤال !! .. أصر عليها وهو يقول : خاتون لا تيأسي !! لكل داء دواء ولكل سؤال جواب .. قالت له إلا لغز الملك الظالم وعينه على مملكة والدي ؟! .. سألها : قولي ماهو اللغز ؟ … وسردت له التفاصيل وهي تكاد أن تجن .. قال لها : حلها سهل جدا !! .. كيف ؟! .. سألت الأميرة .. أجاب : لا .. ليست بهذه البساطة ؟! .. عليك أن ترفعي ثوبك الى مافوق الركبة وبعدها سأعطيك الجواب .. تافه .. حقير .. سافل .. سأنادي الجنود ليقطعوك إربا إربا … قاطعها : لا يمنع وانت ستصبحين جارية في قصر الملك الجديد .. تطلعت حواليها وفكرت ثم قالت في نفسها / هو في تلك الحفرة ومن يعلم فقد يموت فيها وفي كل الأحوال سأزيح ثوبي لربما يكون عنده الحل / .. وبالفعل رفعت ثوبها الى الركبة .. قال لها / كه جل / : قولي لوالدك أن يضع الفرسان في مكان منعزل ويقطع عنهما الأكل والشرب ليومين كاملين وبعدها عليه ان يستدعي أمهر فارسين عنده ومن ثم ليركب كل واحد منهما فرسا الى ماقبل الساقية الفلانية بحوالي الألف خطوة ولينكز كل فارس حصانه في سباق ويعبرا الساقية .. الحصان الرهوان سيعبر الساقية بينما البركيل سيقف ليشرب الماء .. هرعت الأميرة الى غرفة ابيها وأيقظته وهي تشرح لوالدها ماقاله / كه جل / وبالفعل نفذ الملك الأمر بالحرف وفي اليوم الموعود وبالضبط قطع الرهوان الساقية من دون توقف فيما تباطأ الآخر ليشرب الماء وهنا تقدم الملك وأخذ بلجام البركيل وقال لرئيس الوفد قل لملكك بأن هذا الفرس هو بركيل .. عاد الوفد الى المملكة وأخبروا ملكهم ، ولكنه لن يهنأ إلا بضم تلك المملكة ومن جديد أشار عليه مستشاروه أن يرسل وفدا جديدا ومعهم إنائين من الذهب الخالص وقد طعمتا بأحجار نادرة وثمينة جدا وبطرز وفسيفساء يخلب الألباب … ومن جديد وكالعادة وبعد مضي ثلاثة أيام ، تقدم رئيس الوفد من الملك وقدم له الإنائين وهو يقول : يطلب ملكي معرفة هل يوجد شيء أغلى من هذين الإنائين ؟! أرجو الجواب خلال ثلاثة أيام وإلا فأنك ستخسر مملكتك وستضم الى مملكتنا …