آراء

ممارسة الخديعة في مواجهة الحقيقة

عبدالوهاب أحمد

منذ أن وقع المجلس الوطني الكردي الوثيقة السياسية مع الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية في ٢٧/٣/٢٠١٣  ، وهو يواجه سيلاً من الإنتقادات اللاذعة من خصومه السياسيين ، وبعض من فئات المجتمع الكردي السوري ، تحت حجج وذرائع مختلفة ، معظمها لا تستند  إلى حقائق علمية ، وبعيدة عن منطق الواقعية السياسية أثناء التعاطي مع المسائل الحساسة  والجوهرية في الأزمات ، خاصة تلك المتعلقة بقضايا الشعوب وحقوقه ، ضمن جملة من التعقيدات والمصالح المشتركة لقوى داخلية وإقليمية ودولية  ،  جلَّ هذه الانتقادات ، آتيةٌ من جهات سياسية كردية ، كانت حتى الأمس القريب شريكةٌ ، لا بل متلهفة  لتوقيع الاتفاق مع الائتلاف والانضمام له بأي ثمن ، وآخرون يصارعون الزمن ، ويفترشون الممرات السرية في الأبنية ، وأمام أبواب المؤتمرات الاقليمية أو الدولية ، عسى أن يصبحوا من المدعوين إلى هذا المحفل أو تلك ، أما المتابعين والمهتمين بالشأن السياسي العام ، من الكتاب والمثقفين والإعلاميين ، وجدوا انفسهم دون دراية في سياق البروبغندا التحريضية والمشوهة لكل الحقائق الذي يسلكه حزب الاتحاد الديموقراطي ( ب ي د ) ضد سياسات المجلس الوطني الكردي الخارجية ، ورؤيته لحل الأزمة السورية ، وموقعه الطبيعي في صفوف المعارضة السورية .

الوثيقة السياسية المشتركة بين الطرفين ( المجلس الوطني الكردي والائتلاف ) ببنودها الستة عشر ، والتي يتجاهلها المنتقدون عمداً ،  مازالت تأخذ مساحة كبيرة من النقاشات والمناشدات ، أو المطالبات والإملاءات إلى حد المزاودات السياسية ، تناولت بالتفصيل الحقوق القومية للشعب الكردي في سوريا وسبل حلها ، إلى جانب الإعتراف الدستوري بالهوية القومية واللغة الكردية ، وإزالة جميع السياسات والممارسات الإستثنائية ونتائجها السلبية بحق الشعب الكردي ومناطقه في سوريا ، وتم التأكيد على أن تكون سوريا دولة مدنية ديمقراطية تعددية لا مركزية يضمن حقوق جميع مواطنيها وفق الدستور .

فقط ، مطلب ” الفيدرالية ” الذي يطالب به المجلس الوطني الكردي لم يحظى بالإجماع ،  إلا أنه دوّن في نهاية الوثيقة ملاحظة تقول : ” يتحفظ المجلس على بند اللامركزية الإدارية ويرى أن أفضل صيغة للدولة السورية هي الصيغة الاتحادية وسيعمل المجلس على تحقيقها  ” .

لم يكن إنضمام المجلس الوطني الكردي إلى ائتلاف قوى الثورة والمعارضة السورية ، هو الهدف بحد ذاته ، أو من باب الترف السياسي ، بقدر تقارب رؤيته السياسية مع رؤية هذا الإطار وموقعه وتمثيله لصوت السوري المعارض ضد الممارسات الهمجية لنظام بشار الأسد بحق السوريين عامة ودون تمييز ، هذا الموقع ، اكسبه الشرعية الثورية ، وتالياً الإقليمية والدولية باعتراف عشرات الدول به  ،  وهو الوحيد الذي تفهم  المطالب الكردية ، وتعهد بالعمل  مع المجلس  لتحقيق رؤيته السياسية لحل الأزمة السورية وفق بيان جنيف ١ وقرار مجلس الأمن  2254  ، كل ذلك ، لم يوقف طموح المجلس الوطني الكردي ومقارباته لأسس حل القضية الكردية  والأزمة السورية عامة على حدود  وثيقته الموقعة مع الائتلاف  ، بل وانطلاقاً من إيمانه الراسخ بضرورة وحدة الصف الكردي ، وتوحيد الطاقات السياسية والعسكرية والإدارية في خدمة القضية وأبناء الشعب الكردي ومناطقه ، كان يُعقد جلسات حواره وتفاهماته تزامناً مع وجوده في الائتلاف مع حزب الإتحاد الديمقراطي ( ب ي د ) في هولير عاصمة إقليم كردستان ، وبرعاية كريمة من الرئيس مسعود البارزاني ، إلا أن وبكل أسف لم تجد هذه الاتفاقية والتي بعدها النور بسبب تعنت وتفرد ال ب ي د باتخاذ القرارات والإجراءات الأحادية في مناطق روج آفاي كردستان .

في صيف عام  2016  دعت المعارضة السورية بمختلف مشاربها  إلى لندن  ، للتوصل إلى رؤية موحدة حول سبل حل الأزمة السورية ، وتقديم مخرجاته كورقة أساسية يقدم إلى المبعوث الدولي الخاص بالأزمة السورية السيد ستيفان ديمستورا ، قدم حينها الائتلاف ورقته  السياسية  دون الأخذ بالاعتبار ما ورد في الوثيقة السياسية الموقعة مع المجلس الوطني الكردي  ، ليصدر البيان الختامي  لمؤتمر لندن  ، دون التطرق ولو إشارة إلى خصوصية القضية الكردية ، أو الشعب الكردي باعتباره مكون رئيسي من  مكونات الثورة السورية  ،  أو أخذ حقيقة  وجوده كشعب عريق ذو تاريخ وحضارة شارك في تأسيس الدولة السورية . هذا التهميش من قبل قوى المعارضة ، إلى جانب ضعف التمثيل الكردي حينها  ، حجةً وحضوراً ،  جعل من  هذا البيان خالياً  من  المدلولات التي تخص الكرد وقضيتهم في سوريا  ، الأمر الذي دفع بالمجلس بعدم قبول هذه الوثيقة مالم يؤخذ بالاعتبار  التعديلات والمقترحات المقدمة من قبله ، ويرفق معاً كورقة للمبعوث الدولي السيد ديمستورا . ما ورد في بيان مؤتمر لندن آنذاك ، كانت محطة هامة في إختبار مدى جديّة المجلس في الدفاع عن رؤيته السياسية ، فكان لابدَّ من مراجعات نقدية لمستوى  تمثيله في المحافل الدولية ، والجدوى منه مالم يكن حضوره فاعلاً ومعبراً عن تطلعات الشعب الكردي ، وينبرئ ممثلوه دفاعاً عن رؤيته السياسية في المحافل الدولية .

ليس خافياً على جميع القوى والأحزاب السياسية والفعاليات المدنية والعسكرية والشخصيات الوطنية السورية التي تعمل تحت سقف الائتلاف ، حجم ودور المجلس الوطني الكردي في الساحة السياسية الكردية وعمقه الإقليمي الكردي من خلال الدعم والمساندة التي قدمها ويقدمها الرئيس مسعود البارزاني للكرد في سوريا خاصةً ، وموقفه الإيجابي الداعم للثورة السورية عامةً ، وفي هذا الإطار  ، وانطلاقاً من مسؤوليته التاريخية والمصيرية ، بدأ المجلس الوطني الكردي بالتحرك سياسياً ودبلوماسياً ، عبر لجنة علاقاته الخارجية.

ومن خلال ” ممثليه الجدد ” في الهيئة السياسية للائتلاف والهيئة العليا للمفاوضات السورية ، حيث عقدت لقاءات رسمية مع وزراء خارجية دول مثل أمريكا وروسيا وبريطانيا وفرنسا والسعودية ومصر … إلخ ، إلى جانب لقاءات شبه دورية مع مبعوثي وممثلي العديد من الدول الفاعلة في الملف السوري ، و ممثلي المنظمات الدولية المعنية بالشأن السوري ، تكلل هذا الجهد المتواصل من قبل ممثلي المجلس في هيئة التفاوض السورية ، ودفاعهم عن الثوابت القومية للشعب الكردي ، من أجل الحفاظ على خصوصية القضية الكردية وتعريفها ، والاعتراف بها ضمن الوثائق الرسمية للمعارضات السورية في المحافل الإقليمية والدولية ، بالنجاح السياسي المثمر في مؤتمر رياض ٢ لقوى الثورة و المعارضة السورية الذي انعقد في 23 تشرين الثاني من عام 2017 ، البيان الذي صدر باسم المؤتمر ، لم يلبي كل الطموح الكردي ، إلا انه يكاد يكون الأول من نوعه في تاريخ الحركة السياسية الكردية السورية منذ تأسيسها وحتى يومنا هذا ،  من حيث إجماع جميع منصات المعارضة السورية باختلاف توجهاتهم وخلفياتهم السياسية والعقائدية على الإعتراف بالهوية القومية للشعب الكردي في سوريا ، واعتباره مكوناً رئيسياً من مكونات الدولة السورية ،  وورد في نص بيانه الختامي حرفياً ما يلي : ” الإلتزام بأن سوريا دولة متعددة القوميات والثقافات ، يضمن دستورها الحقوق القومية لكافة المكونات من عرب وكرد وتركمان وسريان واشورين وغيرهم ، بثقافاتهم ولغاتهم ، على أنها لغات وثقافات وطنية ، تمثل خلاصة تاريخ سوريا وحضارتها ، واعتبار القضية الكردية جزء من القضية الوطنية السورية ، وضرورة إلغاء جميع السياسات التمييزية الاستثنائية التي مورست بحقهم ، وإعادة الجنسية للمجردين والمكتومين من أبنائهم ..” .

تعتبر وثيقة مؤتمر رياض ٢ لقوى الثورة والمعارضة السورية ، الى جانب بيان جنيف ١ وقرار مجلس الأمن 2254  من الدعامات الأساسية التي بنيت عليها هيئة التفاوض السورية ، والعملية التفاوضية بين المعارضة ونظام بشار الأسد ،  وهي من محددات مسار الحل السياسي  للأزمة السورية تحت الرعاية الدولية .

في ظل الدور الفاعل والمؤثر للعديد من الدول الإقليمية في إدارة الصراع السوري ، وتشابك المصالح والأهداف الإستراتيجية لها على الجغرافية السورية ، كان من البديهي  جداً أن تتراجع جهات سياسية هنا ، أو شخصيات هناك عن جزء من التزاماتها السابقة حيال الكرد وقضيتهم العادلة في سوريا ، امتثالاً لرغبات ومصالح تلك الدول تارة ، أو مغازلة لها للحفاظ على مصالحها ووجودها في المعادلة السياسية ،   حيث صدرت بعض المواقف السلبية من شركاء المجلس في المعارضة حيال أحداث وتطورات هامة وخطيرة ، تزامنت مع النشاط السياسي والدبلوماسي للمجلس ، وما حققه من نجاح ، سواءً في هيئة التفاوض السورية بقبوله ككيان مستقل فيها ، أو من خلال تمثيله في اللجنة الدستورية ، وتأتي في المقدمة هذه المواقف ، الموقف من الاحتلال التركي لمنطقة عفرين بمشاركة المجموعات المسلحة السورية المرتبطة بها ، وما نتج عن هذا الاحتلال من عمليات تخريب وتدمير وقتل وتصفيات جسدية كيدية وسرقات للمتلكات الخاصة ، وعمليات التهجير القسرية والتغيير الديموغرافي الممنهج  من قبل تلك الفصائل وبدعم تركي مباشر  ، وتبني الائتلاف لهذه الفصائل سياسياً ، وتأييد احتلال منطقة عفرين تحت مسمى عملية ” غصن الزيتون ” . جميع هذه المواقف ، سببت شرخاً في العلاقة بين المجلس الوطني الكردي  والائتلاف من جهة ، وبين المجلس وتركيا من جهة أخرى ، وذلك نتيجة لتمسك المجلس الوطني الكردي بموقفه الرافض لهذه العملية وما تخللها من انتهاكات وتجاوزات لا إنسانية إرهابية بحق المدنيين الكرد العزل في عفرين ، موقف المجلس الوطني الكردي الثابت من احتلال عفرين ، قابله امتعاض شديد من قبل أطراف سياسية بعينها داخل الائتلاف ، الأمر الذي دفع بالأخير إلى دعوة هيئة الرئاسة للمجلس الكردي للوقوف على هذه المواقف ، عبر موجهة له بتاريخ 28/2/2018  يدعوا فيها المجلس إلى تقديم إيضاحات حول : تسمية المجلس الوطني الكردي عملية غصن الزيتون بغصن الدم ، ووصف ممارسات الفصائل المسلحة في عفرين بالممارسات الإرهابية  ، وتحديد موقف من حزب الإتحاد الديمقراطي ووصفه ” بمنظمة إرهابية ” . جميع هذه المطالب تم رفضها من قبل وفد هيئة الرئاسة للمجلس ، الذي اجتمع مع قيادات الائتلاف في اسطنبول ، وبشكل مغاير لموقف الائتلاف من العملية العسكرية في عفرين ، مع تزايد حدّة الإتهامات الموجهة من قبل حزب ( ب ي د ) وحلفائه من الأحزاب الأخرى ، وتجييش الشارع الكردي ضد المجلس وقياداته ،   كرّس الأخير وعبر ممثليها في هيئة التفاوض السورية نشاطه في فضح جرائم وانتهاكات هذه الفصائل أمام الوفود والبعثات وممثلي الدول المعنية بالأزمة السورية ، وقدمت العديد من الوثائق التي  يثبت فيها انتهاكات وممارسات هذه الفصائل بحق الشعب الكردي في عفرين ، وطالب من تلك الدول بضرورة إيصال المساعدات الإنسانية العاجلة الى الاهالي في عفرين ، وإخراج جميع الفصائل المسلحة ومجموعاتها المنفلتة من القرى والمدن والبلدات ، وتسليم إدارة المنطقة إلى مدنيين من أبناء منطقة عفرين حصراً ، وما تزال الجهود تبذل في هذا المسار عبر القنوات السياسية والدبلوماسية لتخفيف وطأة الاحتلال على أبناء شعبنا الكردي في عفرين .

مقابل كل هذا الحراك السياسي والدبلوماسي الذي يقوم به المجلس عبر ممثليه في الائتلاف وهيئة التفاوض السورية واللجنة الدستورية ، وإصراره في الدفاع عن رؤيته السياسية ، وتمسكه بثوابته الوطنية والقومية ، وايمانه المطلق ، بأن الأزمة في سوريا تحلُّ سياسياً وبرعاية دولية ، لا تزال سهام التخوين والشتيمة توجه له من قبل حزب الاتحاد الديموقراطي ( ب ي د ) والأطراف السياسية التي تدور في فلكه ، إلى جانب بعض الكتاب والمثقفين والمهتمين بالشأن العام ، ويتناسون عمداً ، أو خوفاً بأن الكثير من المحاولات جرت في السابق وما تزال من قبل حزب الإتحاد الديمقراطي ( ب ي د ) للحاق بأطر المعارضة السورية وتحت أي مسمى لتثبيت حضوره في العملية السياسية ، وهذا مالم يقف المجلس الوطني الكردي يوماً ضده ، أو انتقص من أهمية مشاركة حزب الإتحاد الديمقراطي في العملية السياسية وبرعاية دولية ، ولم ينفي ب ي د محاولاته الحثيثة في البحث عن سبل لفتح قنوات تواصل مباشرة أو غير مباشرة سواءً مع تركيا ( التي يتهم المجلس بالعلاقة معها ) (؟!) ، أو مع قوى الثورة والمعارضة السورية (؟!) .

وستبقى ممارسة الخديعة مستمرة في وجه الحقيقة ، ونجد من يتقن التلاعب بالالفاظ والمشاعر في مسرح المزاودات السياسية حتى لو وجدنا من يتهمون المجلس الوطني الكردي وينتقدون وجوده في الائتلاف يوماً ضمن صفوف المعارضة السورية ، أو يجلسون على طاولة واحدة في إحدى مقاهي اسطنبول ، أو تحت سارية العلم التركي على مقربة من شجرة الزيتون ، وستبقى تلك الرؤوس مغموسة في تراب حجب الحقيقة.

 

Rûdaw

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى