من بين أيديهن
ليلى قمر
أينما كان الإنسان وفي أي مكان وقف لابد أن يلفت نظره ويشد انتباهه الى الجمال سواء كان نسقا طبيعا أو لوحة – طرز – نقش حيكت او نسقت بأياد بشرية ، وربما تكون هي واحدة من المحفزات في ابتكار واكتشاف حالات راقية بأفكارها وخطوطها بألوانها كما اللوحات الفنية مثلا ، حيث تتوحد فيها الأفكار وتبث فيها الروح في إنسجام مع ماتبدعه الأنامل ، وهو بذاته الرقي الذي ينتج كإنعكاس فعلي لحالة الإنسجام الكامل مع الذات أولا ، ولتتجسد عمليا”في ذات الأعمال الراقية وابداعاتها.
هذه الأعمال التي تبتدئ ربما صغيرة وتكبر بأصحابها ومبدعيها لتحتل نتاجاتهم على جدران المعارض العالمية والفنادق الضخمة والقصور، ولكن ؟ قابلها في وسطنا وبيئاتنا حيث البساطة في الحياة المعيشية كانت في السنين السابقة ، وانعدام سبل التواصل المباشر وترف الحياة الذي كنا ولم نزل فيها رغم جائحة كورونا ، نعم ، في ذلك الزمن الجميل كان معظم البيوت الكردية تكتسي وتتزين بما تنقشه أيادي النسوة اللاتي حرصن على تعلم ومواظبة القيام بفن التطريز وكافة أشكال النقوش برسوماتها مهما وصلت بها درجات التعقيد ، في ذلك الزمن الهادئ ، كان كل شيء يشي بجمالياته رغم صعوبات الحياة ، وكان في كل حي دور أشبه ما تكون بمراكز لدورات تعليمية تجتمع فيها حلقات النساء.
وفي العادة كن تلتقين في بيت إحداهن وكل منهن تتفنن في حمل ماكان يسمى( دزوك) تلك القطعة المعدنية الناعمة الصغيرة في حجمها والصاخبة في نتاجها حيث تنتج أروع النقوش ، رغم نهارات النسوة المنهكة أصلا في العمل سواء في جلب الماء من النبع ، او من تنظيف وغسل وطبخ وعجن ومن ثم الخبز بالتنور او الصاج (سيل) والعديد من الأعمال الاخرى ، وفي الليل كن تركن في آخر المساء حول فانوس بفتيل وتطور بعدها الى لمبة الكاز التي والفت بين ذلك الضوء من جهة ودقة العين وبتناسق رائع مع حركة اليد ، وكانت تلك الحلقات التعليمية الليلية شبه يومية ، بارعات كن تصبحن تلك النسوة وتبهرن في طرز لوحات نقشهن على قطع القماش الأبيض فتتمازج فيها الألوان المتدرجة في صخبها وهدوئها.
وجرت العادة أن تزداد مع الأيام وتنضم الى تلك الحلقات العفوية متدربات جدد من اللاتي كانت تضج بهن تلك الأمسيات في الفضول بداية ولا تلبثن ان تحرصن بإصرار على إتقان تلك الفنون العفوية برمزياتها المشبعة ، تلك الفنون التي تحتاج اليوم عمليا الى مدارس ومعاهد احترافية لتعليم هذا الفن والحفاظ على نسقية ذلك النتاج الراقي ، ولتحافظ – أقله – على سوية ماكان ينفذ على ضوء اللمبات وفي تلك البيوت الطينية ، وفي ليالي الشتاء القارصة كانت النسوة تلتمن حول المدفأة وتستمرن في الرسم والنقش وفي غالب الأحيان حتى بزوغ الفجر ، وفي تلك الأجواء الرائعة غير المعقدة كانت تنقش أروع اللوحات برسومات تشي بعبق قصصها وخلفيات أساطيرها ، تراث تناقلته الأجيال عبر صباياها ونسائها من جيل إلى جيل ، وكل جيل يضفي روعة على لوحاتها ، فتضج كل قطعة بحكاية رموزها ومن اجمل تلك اللوحات كانت لوحة – شاها ماران – الأميرة الثعبان ، او الطاووس ، او مم وزين وقد تكون ايضا اينانا ودوموزي ، والعشرات من الصور والمقاطع الرمزية.
هذه اللوحات كانت تتعدد في طرزها حسب القطعة الاي كانت تنقش واستخداماتها كالمخدات واغطية الأجهزة او الراديو وحتى اغطية الشبابيك وحتى – كولك – او حافظات القرآن القماشية والاهم كانت هي تلك القطعة متعددة الجيوب التي كانت توضع فيها ربة المنزل الإبر والخيوط والمقص وغيرها من حاجيات البيت الصغيرة والضرورية .. بيوت كانت اشبه الى دور عرض ومتاحف للفنون اليدوية المنزلية ، وعلى قدر توفر مثل هذه اللوحات الفريدة وأشكال الطرز والنقش ودرجة تمازج وتطابق الألوان كانت التقييمات ترتفع او تنخفض ، وكذلك تقييم الفتيات إن كن تعرفن – تنتنا ونقش – والأهم في الامر ان غالبية جهاز العروس كانت لهذه النقوش مكانة رئيسة يحسب لمستلزماتها وجهد الصديقات والقريبات لدقة وسرعة الإنجاز وفي الفترات الأخيرة أصبحت مهنة مثل الخياطة وغيرها.
المقال منشور في جريدة يكيتي العدد “274”